صفحة جزء
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : ( وأولي الأمر منكم ) يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة ، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ، ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة ؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم . ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله : ( وأولي الأمر ) أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة .

فإن قيل : المفسرون ذكروا في " أولي الأمر " وجوها أخرى سوى ما ذكرتم : أحدها : أن المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون .

والثاني : المراد أمراء السرايا ، قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرا على سرية . وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد ، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر ، فجرى بينهما اختلاف في شيء ، فنزلت هذه الآية ، وأمر بطاعة أولي الأمر .

وثالثها : المراد : العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم ، وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك .

ورابعها : نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون ، ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه ، وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا .

السؤال الثاني : أن نقول : حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى مما ذكرتم . ويدل عليه وجوه :

الأول : أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق ، فهم في الحقيقة أولو الأمر ، أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق ، فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى .

والثاني : أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه ، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل ، وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل ، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الإجماع .

الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء ، فقال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني " فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه .

والجواب : أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله : ( وأولي الأمر منكم ) على [ ص: 117 ] العلماء ، فإذا قلنا : المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة ، بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة ، فاندفع السؤال الأول : وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع ؛ لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة ، والذي ذكرناه برهان قاطع ، فكان قولنا أولى ، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها :

فأحدها : أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب ، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة ، فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة ، وعن طاعة الله وطاعة رسوله ، بل يكون داخلا فيه ، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول ، أما إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها ؛ لأنه ربما دل الإجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه ، فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين ، فهذا أولى .

وثانيها : أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية ؛ لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق ، فإذا حملناه على الإجماع لا يدخل الشرط في الآية ، فكان هذا أولى .

وثالثها : أن قوله من بعد : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ) مشعر بإجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع .

ورابعها : أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا ، وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا ، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا ، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم ، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف ، فكان حمل الآية على الإجماع أولى ؛ لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر ) فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق .

وخامسها : أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء ، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء ، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى ، وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد ؛ لوجوه :

أحدها : ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة ، وهو قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر .

الثاني : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر .

وثالثها : أنه قال : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام ، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية