أما قوله تعالى : ( 
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة   ) فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة ، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام ؛ كما قال : ( 
ومن يضلل الله فما له من هاد   ) ، وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد ، وهو المراد من قوله : ( 
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة   ) ، وتقريره : أن 
أشرف الأعضاء هو الوجه ، لأنه محل الحسن والصباحة ، وهو أيضا صومعة الحواس ، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه ، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه ، قال تعالى : ( 
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة   ) [ عبس : 38 – 42 ] ويقال لمقدم القوم : يا وجه العرب ، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء : وجه كذا هو كذا ، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه ، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداء له ، وإذا عرفت هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه - لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ، ونظيره قول 
النابغة    : 
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب 
أي : لا عيب فيهم إلا هذا ، وهو ليس بعيب ، فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه ، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ، ويقال أيضا : إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ، ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، إذا عرفت هذا فنقول : جوابه محذوف ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره ، وسوء العذاب شدته . 
ثم قال تعالى : ( 
وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون   ) ولما بين الله تعالى كيفية 
عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضا كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا ، فقال : ( 
كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون   ) ، وهذا تنبيه على حال هؤلاء ؛ لأن الفاء في قوله : ( 
فأتاهم العذاب   ) تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب ، فإذا كان التكذيب حاصلا ههنا لزم حصول العذاب ؛ استدلالا بالعلة على المعلول ، وقوله : ( 
من حيث لا يشعرون   ) أي : من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضا أنه أتاهم الخزي ، وهو الذل والصغار والهوان ، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقرونا بالهوان والذل . 
ثم قال : ( 
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون   ) يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره ، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع ، والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب ، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين   
[ ص: 240 ] تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام ، فقال : ( 
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون   ) والمقصود ظاهر ، وقالت 
المعتزلة    : دلت الآية على أن 
أفعال الله وأحكامه معللة ، ودلت أيضا على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل ؛ لأن قوله : ( 
ولقد ضربنا للناس   ) مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : ( 
لعلهم يتذكرون   ) مشعر بالتعليل أيضا ، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن ، لا جرم 
وصف القرآن بالمدح والثناء ، فقال : ( 
قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه : 
الأول : أن قوله : ( 
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون   ) يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر ، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا ، فإن القديم هو الذي يكون موجودا في الأزل ، وهذا يمتنع أن يقال : إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا . 
والثاني : أنه وصفه بكونه عربيا ، وإنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم ، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقا محدثا . 
الثالث : أنه وصفه بكونه قرآنا ، والقرآن عبارة عن القراءة ، والقراءة مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق ، فكان فعلا ومفعولا ، والجواب : أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات ، وهي حادثة ومحدثة . 
المسألة الثانية : قال 
الزجاج    : قوله ( 
عربيا   ) منصوب على الحال ، والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ، ويجوز أن ينتصب على المدح . 
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصفه بثلاثة : 
أولها : كونه قرآنا ، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة ، كما قال : ( 
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون   ) [ الحجر : 9 ] . 
وثانيها : كونه عربيا ، والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : ( 
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا   ) [ الإسراء : 88 ] . 
وثالثها : كونه ( 
غير ذي عوج   ) والمراد براءته عن التناقض ، كما قال : ( 
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا   ) ، وأما قوله : ( 
لعلهم يتقون   ) ، 
فالمعتزلة  يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى . 
وفيه بحث آخر : وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى : ( 
لعلهم يتذكرون   ) ، وقال في هذه الآية : ( 
لعلهم يتقون   ) ، والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء ، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه ، حصل الاتقاء والاحتراز ، والله أعلم .