صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يقرأ فاتحة الكتاب وهو فرض من فروض الصلاة لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب } )


( الشرح ) حديث عبادة رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله - وقراءة الفاتحة للقادر عليها فرض من فروض الصلاة وركن من أركانها ومتعينة لا يقوم مقامها ترجمتها بغير العربية ولا قراءة غيرها من القرآن ، ويستوي في تعينها جميع الصلوات فرضها ونفلها ، جهرها وسرها ، والرجل والمرأة ، والمسافر والصبي ، والقائم والقاعد والمضطجع ، وفي حال شدة الخوف وغيرها ، سواء في تعينها الإمام والمأموم والمنفرد . وفي المأموم قول ضعيف أنها لا تجب عليه في الصلاة الجهرية ، وسنوضحه قريبا - إن شاء الله تعالى - وتسقط الفاتحة عن المسبوق ويتحملها عنه الإمام بشرط أن تلك الركعة محسوبة للإمام احترازا عن الإمام المحدث ، والذي قام لخامسة ناسيا ، وسنوضح ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى .

( فرع ) قد ذكرنا أن قراءة الفاتحة متعينة في كل صلاة ، وهذا عام في الفرض والنفل كما ذكرناه ، وهل نسميها في النافلة واجبة أم شرطا ؟ فيه ثلاثة أوجه سبق بيانها في مواضع أصحها ركن والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في القراءة في الصلاة : مذهبنا أن الفاتحة متعينة لا تصح صلاة القادر عليها إلا بها ، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وقد حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري [ ص: 284 ] وخوات بن جبير والزهري وابن عون والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وحكاه أصحابنا عن الثوري وداود وقال أبو حنيفة لا تتعين الفاتحة لكن تستحب ، وفي رواية عنه تجب ولا تشترط ، ولو قرأ غيرها من القرآن أجزأه ، وفي قدر الواجب ثلاث روايات عنه ( إحداها ) آية تامة ( والثانية ) ما يتناول الاسم قال الرازي وهذا هو الصحيح عندهم ( والثالثة ) ثلاث آيات قصار أو آية طويلة وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد واحتج لأبي حنيفة بقول الله تعالى { فاقرءوا ما تيسر منه } وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن } رواه البخاري ومسلم ، وبحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها } وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب } قالوا : فدل على أن غيرها يقوم مقامها ، قالوا : ولأن سور القرآن في الحرمة سواء بدليل تحريم قراءة الجميع على الجنب وتحريم مس المحدث المصحف .

واحتج أصحابنا بحديث عبادة بن الصامت المذكور في الكتاب : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } رواه البخاري ومسلم . فإن قالوا : معناه لا صلاة كاملة قلنا : هذا خلاف الحقيقة وخلاف الظاهر والسابق إلى الفهم فلا يقبل . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا ، أي غير تمام فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم [ ص: 285 ] صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل } رواه مسلم

وعن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب } رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح حسن ورجاله ثقات كلهم

. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب } رواه بهذا اللفظ ابن خزيمة وأبو حاتم وابن حبان بكسر الحاء في صحيحيهما بإسناد صحيح . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وفي المسألة أحاديث كثيرة صحيحة والجواب عن الآية التي احتجوا بها أنها وردت في قيام الليل لا في قدر القراءة ، وعن الحديث أن الفاتحة تتيسر فيحمل عليها جمعا بين الأدلة أو يحمل على من يحسنها ، وعن حديث أبي هريرة { لا صلاة إلا بقرآن } أنه حديث ضعيف رواه أبو داود بإسناد ضعيف .

وجواب آخر وهو أن معنى هذا الحديث لو صح أن أقل ما يجزي فاتحة الكتاب ، كما يقال : صم ولو ثلاثة أيام من الشهر ، أي أكثر من الصوم ، فإن نقصت فلا تنقص عن ثلاثة أيام . وعن قولهم : إن سور القرآن سواء في الحرمة أنه لا يلزم منه استواؤها في الإجزاء في الصلاة ، لا سيما وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في نفس الفاتحة فوجب المصير إليها هذا مختصر ما يتعلق بالمسألة من الدلائل لنا ولهم ، اقتصرت فيها على الصواب من الدلائل الصحيحة ، إذ لا فائدة في الإطناب في الواهيات ، وبالله التوفيق .

( فرع ) في مذاهبهم في أصل القراءة .

مذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوبها ، ولا تصح الصلاة إلا بها ، ولا خلاف فيه إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب ومتابعوه عن الحسن بن صالح وأبي بكر الأصم أنهما قالا : لا تجب القراءة بل هي مستحبة . واحتج لهما بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صلى المغرب فلم يقرأ فقيل له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسنا قال : فلا بأس " رواه الشافعي في الأم وغيره وعن الحارث الأعور " أن رجلا قال لعلي رضي الله عنه : إني صليت ولم أقرأ ، قال : أتممت الركوع [ ص: 286 ] والسجود ؟ قال : نعم ، قال تمت صلاتك " رواه الشافعي . وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ( القراءة سنة ) رواه البيهقي واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة في الفرع قبله ولا معارض لها ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا صلاة إلا بقراءة } رواه مسلم

وأما الأثر عن عمر رضي الله عنه فجوابه من ثلاثة أوجه :

( أحدها ) أنه ضعيف ; لأن أبا سلمة ومحمد بن علي لم يدركا عمر :

( والثاني ) أنه محمول على أنه أسر بالقراءة :

( والثالث ) أن البيهقي رواه من طريقين موصولين عن عمر رضي الله عنه أنه صلى المغرب ولم يقرأ فأعاد ، قال البيهقي : وهذه الرواية موصولة موافقة للسنة في وجوب القراءة ، وللقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فضعيف أيضا ; لأن الحارث الأعور متفق على ضعفه وترك الاحتجاج به ، وأما الأثر عن زيد فقال البيهقي وغيره : مراده أن القراءة لا تجوز إلا على حسب ما في المصحف فلا تجوز مخالفته وإن كان على مقاييس العربية ، بل حروف القراءة سنة متبعة أي طريق يتبع ولا يغير والله أعلم .

( فرع ) لفاتحة الكتاب عشرة أسماء حكاها الإمام أبو إسحاق الثعلبي وغيره :

( أحدها ) فاتحة الكتاب ، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسميتها بذلك ، قالوا : سميت به ; لأنه يفتتح بها المصحف والتعلم والقراءة في الصلاة ، وهي مفتتحة بالحمد الذي يفتتح به كل أمر ذي بال ، وقيل ; لأن الحمد فاتحة كل كتاب ( الثاني ) سورة الحمد ; لأن فيها الحمد ( الثالث ) و ( الرابع ) أم القرآن وأم الكتاب ; لأنها مقدمة في المصحف ، كما أن مكة أم القرى حيث دحيت الدنيا من تحتها ، وقيل : لأنها مجمع العلوم والخيرات كما سمي الدماغ أم الرأس ; لأنه مجمع الحواس والمنافع .

قال ابن دريد : الأم في كلام العرب الراية ينصبها الأمير للعسكر يفزعون إليها في حياتهم وموتهم ، وقال الحسن بن الفضل : سميت بذلك ; لأنها إمام [ ص: 287 ] لجميع القرآن يقرأ في كل ركعة ، ويقدم على كل سورة كأم القرى لأهل الإسلام وقيل : سميت بذلك ; لأنها أعظم سورة في القرآن ، ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } .

( الخامس ) الصلاة للحديث الصحيح في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي } " وهو صحيح كما سبق بيانه قريبا ( السادس ) السبع المثاني للحديث الصحيح الذي ذكرناه قريبا سميت بذلك ; لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة ( السابع ) الوافية - بالفاء - ; لأنها لا تنقص فيقرأ بعضها في ركعة ، وبعضها في أخرى بخلاف غيرها ( الثامن ) الكافية ; لأنها تكفي عن غيرها ولا يكفي عنها غيرها ( التاسع ) الأساس روي عن ابن عباس ( العاشر ) الشفاء فيه حديث مرفوع قال الماوردي في تفسيره : اختلفوا في جواز تسميتها أم الكتاب فجوزه الأكثرون ; لأن الكتاب تبع لها ومنعه الحسن وابن سيرين وزعما أن هذا اسم للوح المحفوظ فلا يسمى به غيره ( قلت ) هذا غلط ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { من قرأ بأم الكتاب أجزأت عنه } وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني . } .

التالي السابق


الخدمات العلمية