صفحة جزء
( ومن أعسر بنفقة امرأته لم يفرق بينهما ويقال لها استديني عليه ) وقال الشافعي : يفرق ، [ ص: 390 ] لأنه عجز عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التفريق كما في الجب والعنة ، بل أولى لأن الحاجة إلى النفقة أقوى . [ ص: 391 ] ولنا أن حقه يبطل وحقها يتأخر ، والأول أقوى في الضرر ، وهذا لأن النفقة تصير دينا بفرض القاضي فتستوفي الزمان الثاني ، وفوت المال وهو تابع في النكاح لا يلحق بما هو المقصود وهو التناسل . وفائدة الأمر بالاستدانة مع الفرض أن يمكنها [ ص: 392 ] إحالة الغريم على الزوج ، فأما إذا كانت الاستدانة بغير أمر القاضي كانت المطالبة عليها دون الزوج .


( قوله ومن أعسر بنفقة امرأته إلخ ) بقولنا قال الزهري وعطاء وابن يسار والحسن البصري والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وحماد بن أبي سليمان والظاهرية ; ومعنى الاستدانة أن تشتري الطعام على أن [ ص: 390 ] يؤدي الزوج ثمنه . وقال الخصاف : الشراء بالنسيئة ليقضي الثمن من مال الزوج ، وبقول الشافعي قال مالك وأحمد في ظاهر قوله ، وعنه رواية كقولنا ، وعلى هذا الخلاف العجز عن الكسوة والعجز عن المسكن ، وهذا التفريق فسخ عند الشافعي ، وأحمد طلاق عند مالك . ولو امتنع عن الإنفاق عليها مع اليسر لم يفرق ، ويبيع الحاكم عليه ماله ويصرفه في نفقتها ، فإن لم يجد ماله يحبسه حتى ينفق عليها ولا يفسخ ، وعن هذا ما ذكر في النهاية حيث قال : ثم اعلم أن ظهور العجز عن النفقة إنما يكون إذا كان الزوج حاضرا ، أما إذا غاب غيبة منقطعة ولم يخلف لها نفقة فرفعت الأمر إلى القاضي فكتب القاضي إلى عالم يرى التفريق بالعجز عن النفقة ففرق بينهما هل تقع الفرقة ؟ قال الشيخ الإمام أبو الحسن السغدي : نعم إذا تحقق العجز عن النفقة . قال صاحب الذخيرة : في هذا الجواب نظر ، والصحيح أنه لا يصح قضاؤه لأن العجز لا يعرف حالة الغيبة لجواز أن يكون قادرا فيكون هذا ترك الإنفاق لا العجز عنه ، فإن رفع هذا القضاء إلى قاض آخر فأمضاه جاز قضاؤه ، والصحيح أنه لا ينفذ لأن هذا القضاء ليس في مجتهد فيه لما ذكرنا أن العجز لم يثبت ذكره في الفصل الثاني من فصول الإمام الأسروشني فتكون الشهود علمت مجازه مجازفتهم فلا يقضي بها كما ذكره ظهير الدين .

واعلم أن الفسخ إذا غاب ولم يترك لها نفقة يمكن بغير طريق إثبات عجزه بمعنى فقره ليجيء ما قال وهو أن تتعذر النفقة عليها . قال القاضي أبو الطيب من الشافعية : إذا تعذرت النفقة عليها بغيبته ثبت لها الفسخ . قال في الحلية : وهو وجه جيد فلا يلزم مجيء ما قال ظهير الدين .

( قوله لأنه عجز إلخ ) استدلوا بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فما في سنن النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وساق الحديث إلى أن قال { وابدأ بمن تعول ، فقيل من أعول يا رسول الله ؟ قال : امرأتك تقول أطعمني وإلا فارقني ، خادمك يقول أطعمني واستعملني ، ولدك يقول أطعمني إلى من تتركني } هكذا في جميع نسخ النسائي وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وسعيد ومحمد ثقتان . وقال الدارقطني : حدثنا أبو بكر الشافعي : حدثنا محمد بن بشر بن مطر ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المرأة تقول لزوجها أطعمني أو طلقني } الحديث . وقال الدارقطني : حدثنا حماد بن أحمد السماك وعبد الباقي بن قانع وإسماعيل بن علي قالوا : أخبرنا أحمد بن علي الخزان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم البارودي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال : يفرق بينهما . وبهذا الإسناد إلى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال : نعم ، قلت سنة ؟ قال سنة . وهذا ينصرف إلى سنته صلى الله عليه وسلم وغايته أن يكون من مراسيل سعيد ، والشافعي يقول بها وأنتم تقولون بالمرسل مطلقا ، وأما المعقول فالقياس على الجب والعنة بل أولى ، لأن البدن يبقى بلا وطء ولا يبقى بلا قوت ، وأيضا منفعة الجماع مشتركة بينهما ; فإذا [ ص: 391 ] ثبت في المشترك جواز الفسخ لعدمه ففي المختص بها أولى ، وقياسا على المرقوق فإنه يبيعه إذا أعسر بنفقته .

( قوله ولنا ) المنقول والمعنى ، أما المنقول فقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وغاية النفقة أن تكون دينا في الذمة وقد أعسر بها الزوج فكانت المرأة مأمورة بالإنظار بالنص ، وأما المعنى فهو أن في إلزام الفسخ إبطال حقه بالكلية وفي إلزام الإنظار عليها والاستدانة عليه تأخير حقها دينا عليه ، وإذا دار الأمر بينهما كان التأخير أولى ، وبه فارق الجب والعنة والمملوك لأن حق الجماع لا يصير دينا على الزوج ، ولا نفقة المملوك تصير دينا على المالك ، ويخص المملوك أن في إلزام بيعه إبطال حق السيد إلى خلف هو الثمن ، فإذا عجز عن نفقته كان النظر من الجانين في إلزامه بيعه ، إذ فيه تخليص المملوك من عذاب الجوع وحصول بدله القائم مقامه للسيد ، بخلاف إلزام الفرقة فإنه إبطال حقه بلا بدل ، وهو لا يجوز بدلالة الإجماع على أنها لو كانت أم ولد عجز عن نفقتها لم يعتقها القاضي عليه .

وأما المروي عن سعيد بن المسيب في قوله : إنه سنة فلعله لا يريد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت عنه إطلاق مثل ذلك غير مريد به ذلك . قال الطحاوي : كان زيد بن ثابت يقول المرأة في الأرش كالرجل إلى ثلث الدية ، فإذا زاد على الثلث فحالها على النصف من الرجل . قال ربيعة بن عبد الرحمن : قلت لسعيد بن المسيب : ما تقول فيمن قطع إصبع امرأة ؟ قال : عشر من الإبل ، قلت : فإن قطع أصبعين ، قال : عشرون من الإبل ، قلت : فإن قطع ثلاثا ، قال : ثلاثون من الإبل ، قلت : فإن قطع أربعا من أصابعها ، قال : عشرون من الإبل ، قلت : سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها . قال : إنه السنة .

قال الطحاوي لم يكن ذلك إلا عن زيد بن ثابت ، فسمى قوله سنة فيكون ما قاله اعتمادا على ما عن أبي هريرة موقوفا عليه ، هذا بعد تسليم صحته ، وإلا فقد روي عن سعيد كقولنا فاضطرب المروي منه فبطل ذكره ابن حزم وابن عبد البر ، وأما المروي عن أبي هريرة مرفوعا عند النسائي والدارقطني فلا شك في أن رفعه غلط ، وإنما هو من قول أبي هريرة .

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفضل الصدقة ما ترك [ ص: 392 ] غنى } وفي لفظ : { ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ، ويقول العبد أطعمني واستعملني ، ويقول الولد أطعمني إلى من تدعني } قالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لا هذا من كيس أبي هريرة ، فثبت أنه موقوف عليه بلا شبهة ، ثم ليس في قول أبي هريرة هذا ما يدل على أن الزوج يلزم بالطلاق ، وكيف وهو كلام عام منه لا يخص المعسر ولا الموسر ، ولا خلاف أن الموسر إذا لم يطعم لا يجبر على الفراق بل يحبس على أحد الأمرين عينا وهو الاتفاق ، فعلى هذا لو سلم أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما رواه الدارقطني كان معناه الإرشاد إلى ما ينبغي مما يدفع به ضرر الدنيا ، مثل { وأشهدوا إذا تبايعتم } يعني ينبغي أن يبدأ بنفقة العيال وإلا قالوا لك مثل ذلك وشوشوا عليك إذا استهلكت النفقة لغيرهم كما ذكرنا ، وأما ما تقدم من رواية الدارقطني عن أبي هريرة وقال مثله فليس المراد مثل ما يليه من قول سعيد بن المسيب بل مثل ما قبله من حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره من رواية النسائي وروايته ذكره ابن القطان في الوهم والإيهام .

( قوله إحالة الغريم على الزوج ) أي وإن لم يرض الزوج وفي التحفة : فائدة الأمر بالاستدانة أن لصاحب الدين أن يأخذ دينه من الزوج أو من المرأة وبدونه الأمر بالاستدانة ليس لرب الدين أن يرجع على الزوج بل عليها وهي ترجع على الزوج ، وهذا لأن الاستدانة إيجاب الدين عليه منها وليس لها عليه هذه الولاية وفائدة أخرى وهي أنها لا تسقط بموت أحدهما في الصحيح بخلاف القضاء وحده على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .

وفي شرح المختار : المرأة المعسرة إذا كان زوجها معسرا ولها ابن من غيره موسرا وأخ فنفقتها على زوجها ويؤمر الابن أو الأخ بالإنفاق عليها ويرجع به على الزوج إذا أيسر ويحبس الابن أو الأخ إن امتنع لأن هذا من المعروف . قال شارح الكنز : تبين بهذا أن الإدانة لنفقتها إذا كان الزوج معسرا وهي معسرة تجب على من كان تجب عليه نفقتها لولا الزوج ، وعلى هذا لو كان للمعسر أولاد صغار ولم يقدر على نفقتهم تجب نفقتهم على من تجب عليه لولا الأب كالأم والأخ والعم ثم يرجع به على الأب .

التالي السابق


الخدمات العلمية