صفحة جزء
الفصل الثالث : في تعقب الجمل بالاستثناء . فإذا قال القائل : من قذف زيدا فاضربه ، واردد شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب أو إلا الذين تابوا ، ومن دخل الدار أو فحش الكلام ، وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب . فقال قوم : يرجع إلى الجميع ، وقال قوم : يقصر على الأخير ، وقال قوم : يحتمل كليهما ، فيجب التوقف إلى قيام دليل .

وحجج القائلين بالشمول ثلاث

الأولى : أنه لا فرق بين أن يقول : اضرب الجماعة التي منها قتلة ، وسراق ، وزناة إلا من تاب ، وبين قوله : عاقب من قتل ، وزنى ، وسرق إلا من تاب ، في رجوع الاستثناء إلى الجميع . الاعتراض : أن هذا قياس ، ولا مجال للقياس في اللغة ، فلم قلتم : إن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد ؟

الثانية : قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العي ، واللكنة ، كقوله : إن دخل الدار فاضربه إلا أن يتوب ، وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب ، وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب .

وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه بل يقول ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء .

الثالثة : أنه لو قال : والله لا أكلت الطعام ، ولا دخلت الدار ، ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى ، يرجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها كقوله : أعط العلوية ، والعلماء إن كانوا فقراء ، وهذا مما لا تسلمه الواقفية بل يقولون : هو متردد بين الشمول ، والاقتصار ، والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمين ، ومنع الإعطاء إلا عند الإذن المستيقن ، ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء .

وحجة المخصصة اثنتان

الأولى : قولهم إن المعممين عمموا ; لأن كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو العاطفة ، ونحن إذا خصصنا بالأخير جعلناها مستقلة ، وهذا تقرير علة للخصم ، واعتراض عليهم ، ولعلهم لا يعللون بذلك . ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يفد ، وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به .

الثانية : قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم ، ودخوله تحت الاستئناء مشكوك فيه فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين .

وهذا فاسد من أوجه :

الأول : أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام ، وما تم الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم ، ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف .

الثاني : أنه لا يتعين رجوعه إلى الأخير بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين

الثالث : أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط ، والصفة ، ويسلم أكثرهم عموم ذلك ، ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة ; لأنه المستيقن

حجة الواقفية : أنه إذا بطل التعميم ، والتخصيص ; لأن كل واحد تحكم ، ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما ، ولا يمكن الحكم أن أحدهما حقيقة ، والآخر مجاز ، فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر .

وهذا هو الأحق ، وإن لم يكن بد من رفع التوقف ، فمذهب المعممين أولى ; لأن الواو ظاهرة في العطف [ ص: 261 ] وذلك يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، لكن " الواو " محتمل أيضا للابتداء كقوله تعالى : { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } ، وقوله عز وجل : { فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل } ، والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول ، والاقتصار على الأخير ، والرجوع إلى بعض الجمل السابقة ، كقوله تعالى : { فاجلدوهم } فقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } لا يرجع إلى الجلد ، ويرجع إلى الفسق ، وهل يرجع إلى الشهادة ؟ فيه خلاف وقوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } يرجع إلى الأخير ، وهو الدية ; ; لأن التصدق لا يؤثر في الإعتاق .

وقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } فقوله : { فمن لم يجد } يرجع إلى الخصال الثلاثة ، وقوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه } إلى قوله : { إلا قليلا } فهذا يبعد حمله على الذي يليه ; لأنه يؤدي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ، ورحمته ، فقيل إنه محمول على قوله : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } إلا قليلا منهم لتقصير ، وإهمال ، وغلط ، وقيل : إنه يرجع إلى قوله : { أذاعوا به } ، ولا يبعد أن يرجع إلى الأخير ، ومعناه : ولولا فضل الله عليكم ، ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة ، كأويس القرني ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده ، واتباع رسوله قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية