صفحة جزء
قال ابن الجوزي فيما أنبئوني عنه : إن شيخه أبا بكر الأنصاري أنبأه قال : شهدت أنا وجماعة على أبي الوفاء بن عقيل قال : كنت قد اعتقدت في الحلاج ونصرته في جزء ، وأنا تائب إلى الله منه ، وقد قتل بإجماع فقهاء عصره ، فأصابوا وأخطأ هو وحده .

السلمي : سمعت منصور بن عبد الله : سمعت الشبلي يقول : كنت أنا والحلاج شيئا واحدا ، إلا أنه أظهر وكتمت . وسمعت منصورا يقول : وقف الشبلي عليه وهو مصلوب ، فنظر إليه وقال : ألم ننهك عن العالمين ؟ !

أبو القاسم التنوخي : أخبرنا أبي : حدثني حسين بن عباس عمن حضر مجلس حامد ، وجاءوه بدفاتر الحلاج ، فيها : إن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يستغني عنه بأن يعمد إلى بيت في داره ، فيعمل فيه محرابا ، ويغتسل ، ويحرم ، ويقول كذا وكذا ، ويصلي كذا وكذا ، ويطوف بذلك البيت ، فإذا فرغ فقد سقط عنه الحج إلى الكعبة . فأقر به الحلاج وقال : هذا شيء رويته كما سمعته .

فتعلق بذلك عليه الوزير ، واستفتى القاضيين : أبا جعفر أحمد بن البهلول ، وأبا عمر محمد بن يوسف ، فقال أبو عمر : هذه زندقة يجب بها القتل . وقال أبو جعفر : لا يجب بهذا قتل إلا أن يقر أنه يعتقده ; لأن الناس قد [ ص: 332 ] يروون الكفر ولا يعتقدونه ، وإن أخبر أنه يعتقده استتيب منه ، فإن تاب فلا شيء عليه ، وإلا قتل .

فعمل الوزير على فتوى أبي عمر على ما شاع وذاع من أمره ، وظهر من إلحاده وكفره ، فاستؤذن المقتدر في قتله ، وكان قد استغوى نصرا القشوري من طريق الصلاح والدين ، لا بما كان يدعو إليه ، فخوف نصر السيدة أم المقتدر من قتله ، وقال : لا آمن أن يلحق ابنك عقوبة هذا الصالح . فمنعت المقتدر من قتله ، فلم يقبل ، وأمر حامدا بقتله ، فحم المقتدر يومه ذلك ، فازداد نصر وأم المقتدر افتتانا ، وتشكك المقتدر ، فأنفذ إلى حامد يمنعه من قتله ، فأخر ذلك أياما إلى أن عوفي المقتدر ، فألح عليه حامد وقال : يا أمير المؤمنين ، هذا إن بقي قلب الشريعة ، وارتد خلق على يده ، وأدى ذلك إلى زوال سلطانك ، فدعني أقتله ، وإن أصابك شيء فاقتلني .

فأذن له في قتله ، فقتله من يومه ، فلما قتل قال أصحابه : ما قتل ; وإنما قتل برذون كان لفلان الكاتب ، نفق يومئذ ، وهو يعود إلينا بعد مدة ، فصارت هذه الجهالة مقالة طائفة . قال : وكان أكثر مخاريق الحلاج أنه يظهرها كالمعجزات ، يستغوي بها ضعفة الناس .

قال أبو علي التنوخي : أخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي ، قال : أخبرني جماعة أن أهل مقالة الحلاج يعتقدون أن اللاهوت الذي كان فيه حال في ابن له بتستر ، وأن رجلا فيها هاشميا يقال له : أبو عمارة محمد بن عبد الله قد حلت فيه روح محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يخاطب فيهم بسيدنا .

قال التنوخي الأزرق : فأخبرني بعض من استدعاه من الحلاجية إلى أبي عمارة هذا إلى مجلس ، فتكلم فيه على مذهب الحلاج ويدعو إليه . قال : فدخلت ، وظنوا أني مسترشد ، فتكلم بحضرتي والرجل أحول ، فكان [ ص: 333 ] يقلب عينيه إلي فيجيش خاطره بالهوس ، فلما خرجنا قال لي الرجل : آمنت ؟ فقلت : أشد ما كنت تكذيبا لقولكم الآن ، هذا عندكم بمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم ! ؟ لم لا يجعل نفسه غير أحول ؟ فقال : يا أبله ! وكأنه أحول ; إنما يقلب عينيه في الملكوت .

قال أبو علي التنوخي : أخبرني أبو العباس المتطبب أحد مسلمي الطب الذين شاهدتهم : إن حي نور بن الحلاج بتستر ، وإنه يلتقط دراهم من الهواء ، ويجمعها ويسميها دراهم القدرة ، فأحضروا منها إلى مجمع كان لهم ، فوضعوها ، واتخذوا أولئك يشهدون له أنه التقطها من الجو ، يغرون بها قوما غرباء ، يستدعونهم بذلك ، ويرون أن قدر حي نور أجل من أن يمتحن كل وقت ، فلما وضعت الدراهم في منديل قلبتها فإذا فيها درهم زائف ، فقلت : أهذه دراهم القدرة كلها ؟ قالوا : نعم . فأريتهم الدرهم الزيف ، فتفرقت الجماعة وقمنا .

وكان حي نور قد استغوى قائدا ديلميا على تستر ، ثم زاد عليه في المخرقة الباردة ، فانهتك له ، فقتله . فمن بارد مخاريقه : أنه أحضر جرابا ، وقال له : إذا حزبك أمر أخرجت لك من هذا الجراب ألف تركي بسلاحهم ونفقتهم ، فسقط من عينه ، واطرحه ، فجاء إليه بعد مدة ، وقال : أنا أرد يد الملك أحمد بن بويه المقطوعة صحيحة ، فأدخلني إليه ، فصاح عليه ، وقال : أريد أن أقطع يدك; فإن رددتها حملتك إليه ، فاضطرب من ذلك ، فرماه بشيء كانت فيه منيته ، فبعثه سرا فغرقه .

قال علي بن محمود الزوزني : سمعت محمد بن محمد بن ثوابة يقول : حكى لي زيد القصري قال : كنت بالقدس ، إذ دخل الحلاج ، وكان يومئذ يشعل فيه قنديل قمامة بدهن البلسان ، فقام الفقراء إليه يطلبون منه [ ص: 334 ] شيئا ، فدخل بهم إلى القمامة ، فجلس بين الشمامسة وكان عليه السواد ، فظنوه منهم ، فقال لهم : متى يشعل القنديل ؟ قالوا : إلى أربع ساعات . فقال : كثير . فأومأ بأصبعه ، فقال : الله ، فخرجت نار من يده ، فأشعلت القنديل ، واشتعلت ألف قنديل حواليه ، ثم ردت النار إلى أصبعه ، فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا حنيفي ، أقل الحنيفيين ، تحبون أن أقيم أو أخرج ؟ فقالوا : ما شئت . فقال : أعطوا هؤلاء شيئا . فأخرجوا بدرة فيها عشرة آلاف درهم للفقراء .

فهذه الحكاية وأمثالها ما صح منها فحكمه أنه مخدوم من الجن .

قال التنوخي وحدثني أحمد بن يوسف الأزرق قال : بلغني أن الحلاج كان لا يأكل شيئا شهرا ، فهالني هذا ، وكان بين أبي الفرج وبين روحان الصوفي مودة وكان محدثا صالحا ، وكان القصري -غلام الحلاج - زوج أخته ، فسألته عن ذلك فقال : أما ما كان الحلاج يفعله فلا أعلم كيف كان يتم له ، ولكن صهري القصري قد أخذ نفسه ، ودرجها ، حتى صار يصبر عن الأكل خمسة عشر يوما ، أقل أو أكثر .

وكان يتم له ذلك بحيلة تخفى علي ، فلما حبس في جملة الحلاجية ، كشفها لي ، وقال لي : إن الرصد إذا وقع بالإنسان ، وطال فلم تنكشف معه حيلة ، ضعف عنه الرصد ، ثم لا يزال يضعف كلما لم تنكشف حيلته ، حتى يبطل أصلا ، [ ص: 335 ] فيتمكن حينئذ من فعل ما يريد ، وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوما ، فما رأوني آكل شيئا بتة ، وهذا نهاية صبري ، فخذ رطلا من الزبيب ورطلا من اللوز ، فدقهما ، واجعلهما مثل الكسب وابسطه كالورقة ، واجعلها بين ورقتين كدفتر ، وخذ الدفتر في يدك مكشوفا مطويا ليخفى ، وأحضره لي خفية لآكل منه ، وأشرب الماء في المضمضة ، فيكفيني ذلك خمسة عشر يوما أخرى . فكنت أعمل ذلك له طول حبسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية