صفحة جزء
( وتلك نعمة تمنها علي ) وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : ( ألم نـربك فينا وليدا ) ؛ وذكر بهذا آخرا على ما بدأ به فرعون في قوله : ( ألم نربك ) . والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى - عليه السلام - بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري . وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أويصح لك أن تعتد علي نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك . وقرأ الضحاك : " وتلك نعمة ما لك أن تمنها " ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله . والقول الأول فيه إنصاف واعتراف . وقال الأخفش والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئا قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيدا منطلقا ، بمعنى : ألا ترى ؟ وكان الأخفش الأصغر يقول : أخذه من ألفاظ العامة . وقال الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به . وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط نعمتك التي تمن بها . وقال الزمخشري : وأبى - يعني موسى عليه السلام - أن يسمي نعمته أن [ ص: 12 ] لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت . وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم عبيدا ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبدا ، قال الشاعر :


علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان



( فإن قلت ) : وتلك إشارة إلى ماذا ؟ و " أن عبدت " ما محلها من الإعراب ؟ ( قلت ) : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل " أن عبدت " الرفع ، عطف بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة علي ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم . انتهى . وقال الحوفي : ( أن عبدت بني إسرائيل ) في موضع نصب مفعول من أجله . وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : ( وما رب العالمين ) ؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي . فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : " رسول رب العالمين " دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده . والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادة ، وكان عالما بالله . ويدل عليه : ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية ، واستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء . قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن . انتهى . والموضع الآخر قوله : ( فمن ربكما يا موسى ) ؟ ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السماوات والأرض وما بينهما . وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ( ليس كمثله شيء ) . وإما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشا عن حقيقة الخاصة ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق . والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه ، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم ؟ وأنه محل للحوادث ؟ وأنه لم يدع الإلهية إلا في محل ملكه مصر ؟ وأنه لم يكن ملك الأرض ؟ بل كان فيها ملوك غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب - عليه السلام - ؟ وأنه كان مقرا بالله تعالى في باطن أمره ؟ وجاء قوله : ( وما بينهما ) على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى المظهر في قوله :


بيـن رمـاحي مـالك ونهشـل



اعتبارا للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالما بالله ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة . وقد ذكر - تعالى - في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله ، وهو قوله : ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء ) الآية . ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك [ ص: 13 ] زمام أمرهم . ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله - سبحانه - بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلها . انتهى . ومعنى : ( إن كنتم موقنين ) إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله . وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى - عليه السلام - دعاه إلى التوحيد .

( قال لمن حوله ) هم أشراف قومه . قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ، وكانت للملوك خاصة . ( ألا تستمعون ) أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم . قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية . انتهى . يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعي فيهم الإلهية ، وأقاموا ملوكا بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاضد ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري - رضي الله عنه - فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم . ( قال ربكم ورب آبائكم الأولين ) نبههم على منشئهم ومنشإ آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم . وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلها لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية