صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ) . روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة ، فخرج معهما فتى من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم ، [ ص: 38 ] فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فاستحلفهما - وفي رواية - فحلفهما بعد العصر النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء الرجلان من ورثة السهمي ، فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال : فأخذا الجام ، وفيهم نزلت الآية . قيل : والسهمي ، هو مولى لبني سهم ، يقال له : بديل بن أبي مريم ، وأن جام الفضة كان يريد به ( الملك ) ، وهو أعظم تجاراته ، وأن عديا وتميما باعاه بألف درهم واقتسماها . وقيل : اسمه بديل بن أبي مارية مولى العاصي بن وائل السهمي ، وأنه خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ، وأن إناء الفضة كان وزنه ثلاثمائة مثقال ، وكان مموها بالذهب ، قال فقدموا الشام ، فمرض بديل ، وكان مسلما الحديث . وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثة بديل قالوا لهما : ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ، فما بال هذا الإناء معكما ، وهو مما خرج صاحبنا به ، وقد حلفتما عليه ، قالا : إنا كنا ابتعناه منه ، ولم يكن لنا عليه بينة ، فكرهنا أن نقر لكم ، فتأخذوه منا ، وتسألوا عليه البينة ، ولا نقدر عليها ، فرفعوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت انتهى . وفي رواية قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر ، وأديت لهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألهم البينة ، فلم يجدوا ما أمروا به ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه ، فحلف ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : ( بعد أيمانهم ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم ، فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد . وزاد الواقدي في حديثه أن تميما وعديا كانا أخوين ، ويعني ، والله أعلم ، أنهما أخوان لأم ، وأن بديلا كتب وصيته بيده ودسها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدي ; أن يؤديا رحله ، وأن الرسول استحلفهما بعد العصر ، وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة . وذكر الزمخشري هذا السبب مختصرا مجردا ، فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم ، كان من المهاجرين ، وأنه كتب كتابا فيه ما معه ، وطرحه في متاعه ، ولم يخبر به صاحبيه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة ، فطالبوهما بالإناء ، فجحدوا فرفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت . وقال ابن عطية : ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ، ولا ثبت إسلامه ، وقد عده بعض المتأخرين في الصحابة . وقال مكي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن ، إعرابا ، ومعنى وحكما . قال ابن عطية : وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه انتهى . وقال أبو الحسن السخاوي : ما رأيت أحدا من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هي أنه لما ذكر ( ياأيها الذين آمنوا ) ، كان في ذلك تنفير عن الضلال ، واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة ، أو غيرها ، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم ، أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه . وقال أبو نصر القشيري : لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود ، وترك الخيانات ، انجر الكلام إلى هذا . وقرأ الجمهور ( شهادة بينكم ) بالرفع ، وإضافة ( شهادة ) إلى ( بينكم ) . وقرأ الشعبي والحسن والأعرج ( شهادة بينكم ) برفع ( شهادة ) ، وتنوينه . وقرأ السلمي والحسن أيضا ( شهادة ) بالنصب والتنوين . وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة ، [ ص: 39 ] و ( بينكم ) في هاتين القراءتين منصوب على الظرف ، فـ ( شهادة ) على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه ، كقوله هذا فراق بيني وبينك ، وخبره ( اثنان ) تقديره : شهادة اثنين ، أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم اثنان ، واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر ، وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج . وأجاز الزمخشري أن يرتفع ( اثنان ) على الفاعلية بـ ( شهادة ) ، ويكون ( شهادة ) مبتدأ وخبره محذوف ، وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان . وقيل : ( شهادة ) مبتدأ ، خبره ( إذا حضر أحدكم الموت ) . وقيل : خبره ( حين الوصية ) ، ويرتفع ( اثنان ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم ، أو على الفاعلية ، التقدير يشهد اثنان . وقيل : ( شهادة ) مبتدأ ، ( واثنان ) مرتفع به على الفاعلية ، وأغنى الفاعل عن الخبر . وعلى الإعراب الأول يكون ( إذا ) معمولا للشهادة ، وأما ( حين ) فذكروا أنه يكون معمولا لحضر ، أو ظرفا للموت ، أو بدلا من ( إذا ) ولم يذكر الزمخشري غير البدل قال ( حين الوصية ) بدل منه يعني من ( إذا ) ، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ، ويذهل عنها . وحضور الموت مشارفته ، وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى . وقال الماتريدي ، واتبعه أبو عبد الله الرازي : التقدير ما بينكم فحذف ما . قال أبو عبد الله الرازي : يعني شهادة ما بينكم ، ( وبينكم ) كناية عن التنازع; لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع ، وحذف ( ما ) من قوله ما بينكم ، جائز لظهوره ونظيره ( هذا فراق بيني وبينك ) أي ما بيني وبينك ، وقوله ( لقد تقطع بينكم ) في قراءة من نصب انتهى . وحذف ( ما ) الموصولة لا يجوز عند البصريين ، ومع الإضافة ، لا يصح تقدير ( ما ) البتة ، وليس قوله ( هذا فراق بيني وبينك ) نظيره ( لقد تقطع بينكم ) لأن ذلك مضاف إليه ، وهذا باق على طريقته ، فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ( ما ) لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية ، وصيرته مفعولا به على السعة ، وأما تخريج قراءة السلمي والحسن ( شهادة ) بالنصب والتنوين ، ونصب ( بينكم ) فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان ، فجعل ( شهادة ) مفعولا بإضمار هذا الأمر ، و ( اثنان ) ، مرتفع بـ ( ليقم ) على الفاعلية ، وهذا الذي قدره الزمخشري ، هو تقدير ابن جني بعينه . قال ابن جني : التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى . وهذا الذي ذكره ابن جني ، مخالف لما قاله أصحابنا; قالوا : لا يجوز حذف الفعل ، وإبقاء فاعله ، إلا إن أشعر بالفعل ما قبله ، كقوله تعالى : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) ، على قراءة من فتح الباء ، فقرأه مبنيا للمفعول . وذكروا في اقتياس هذا خلافا; أي يسبحه رجال ، فدل يسبح على يسبحه ، أو أجيب به نفي كأن يقال لك : ما قام أحد عندك ؟ فتقول بلى زيد; أي قام زيد ، أو أجيب به استفهام ، كقول الشاعر :


ألا هل أتى أم الحويرث مرسل بل خالد إن لم تعقه العوائق

التقدير أتى خالد ، أو يأتيها خالد ، وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني ، وتبعه الزمخشري واحدا من هذه الأقسام الثلاثة . والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين : أحدهما; أن يكون ( شهادة ) منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل ، بمعنى الأمر ، واثنان مرتفع به ، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك : ضربا زيدا ، إلا أن الفاعل في ضربا مسند إلى ضمير المخاطب; لأن معناه اضرب ، وهذا مسند إلى الظاهر; لأن معناه ليشهد ، والوجه الثاني أن يكون أيضا مصدرا ، ليس بمعنى الأمر ، بل يكون خبرا ناب مناب الفعل في الخبر ، وإن كان ذلك قليلا ، كقولك : افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك ، فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر ، وكما هو الأحسن في قول امرئ القيس :


وقوفا بها صحبي علي مطيهم

فارتفاع صحبي وانتصاب ( مطيهم ) بقوله وقوفا; لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر ، التقدير وقف صحبي علي مطيهم . والتقدير في الآية [ ص: 40 ] يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام ، أو الحضور ، أو اليمين ؟ ثلاثة أقوال آخرها للطبري ، والقفال كقوله : ( فشهادة أحدهم أربع شهادات ) . وقيل : تأتي الشهادة بمعنى الإقرار ، نحو قوله : ( والملائكة يشهدون ) ، وبمعنى العلم ، نحو قوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) ، وبمعنى الوصية . وخرجت هذه الآية عليه ، فيكون فيها أربعة أقوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية