الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) . تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة ، وهنا ( تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) وهناك ( اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) وهنا ( لا يعلمون شيئا ) ، وهناك ( لا يعقلون شيئا ) والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ، ومعنى ( إلى ما أنزل الله ) أي من القرآن الذي فيه التحريم [ ص: 35 ] الصحيح ، ومعنى حسبنا : كافينا . وقول ابن عطية : معنى ( حسبنا ) كفانا ليس شرحا بالمرادف ، إذ شرح الاسم بالفعل . وقال ابن عطية : في ( أولو ) ألف التوقيف دخلت على واو العطف ، كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى ، والتزموا شنيع القول ، وإنما التوقيف توبيخ لهم ، كأنهم يقولون بعده : نعم ولو كان كذلك انتهى . وقوله في الهمزة ألف التوقيف ، عبارة لم أقف عليها . من كلام النحاة يقولون : همزة الإنكار همزة التوبيخ ، وأصلها همزة الاستفهام ، وقوله : كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى ، يعني فكان التقدير قالوا : فاعتنى بالهمزة ، فقدمت لقوله : (أولم يسيروا في الأرض ) وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه ، إن شاء الله تعالى . وقال الزمخشري : والواو في قوله : ( أولو كان آباؤهم ) واو الحال ، وقد دخلت عليها همزة الإنكار ، والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ، ولا يهتدون . والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي ، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة انتهى . وجعل الزمخشري الواو في ( أولو ) واو الحال ، وهو مغاير لقول ابن عطية ; أنها واو العطف ، لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال ، لكن يحتاج ذلك إلى تبيين ، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا; أن ( لو ) التي تجيء هذا المجيء ، هي شرطية ، وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها ، وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل فقوله : " أعطوا السائل ، ولو جاء على فرس ، وردوا السائل ، ولو بظلف محرق ، واتقوا النار ، ولو بشق تمرة " . وقول الشاعر :


قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار



فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ، ولو على الحالة التي تشعر بالغنى ، وهي مجيئه على فرس . وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب ، فالواو عاطفة على حال مقدرة ، فمن حيث هذا العطف صح أن يقال : إنها واو الحال . وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا . فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ، ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية ، فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء; لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم [ ص: 36 ] لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) . قال أبو أمية الشعباني : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " اؤمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم ، فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم " . وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية; لأنه عن الرسول ، وعليه الصحابة . بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية; على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ، ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله : عليكم أنفسكم ، فيقول أحدكم : علي نفسي ، فوالله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليستعملن عليكم شراركم ، وليسومنكم سوء العذاب . وعن عمر أن رجلا قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما ؟ قال لا آمر ، ولا أنهى ، فقال له عمر : لقد طمست سهمين من سهام الإسلام ، إن شاء غفر لك ، وإن شاء عذبك . وعن ابن مسعود : ليس هذا زمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا رد عليكم ، فعليكم أنفسكم . وقيل : لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام ، فلم تأمر ، ولم تنه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا : " ليبلغ الشاهد منكم الغائب " ونحن شهدنا ، فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق ، لم يقبل . وقال ابن جبير ( عليكم أنفسكم ) فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر و ( لا يضركم من ضل ) من أهل الكتاب إذا اهتديتم . وقال ابن زيد : المعنى يا أيها الذين آمنوا من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب ( عليكم أنفسكم ) في الاستقامة على الدين ( لا يضركم ) ضلال الأسلاف ( إذا اهتديتم ) . قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم ، كابن أبي السرح ، وغيره . وقال المهدوي : قيل : إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقال ابن عطية : لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ، ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف . وقال الزمخشري : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتو من الكفرة ، ويتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، وما كلفتم من إصلاحها ، والمشي في طرق الهدى ، ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) . وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به . وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد . وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا : عجبا لمحمد ! يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل الكتاب الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام ، وقد ردها على إخواننا من العرب ؟ فشق ذلك على المسلمين ، فنزلت . وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها; أنه لما بين أنواع التكاليف ، ثم قيل : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) إلى قوله : ( وإذا قيل لهم تعالوا ) الآية . كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب ، لم ينتفعوا بشيء منه ، بل بقوا مصرين على جهلهم ، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم ، وضلالتهم ، فإن ذلك لا يضركم ، بل كونوا منقادين لتكاليف الله ، مطيعين لأوامره ( وعليكم ) من كلم الإغراء ، وله باب معقود في النحو ، وهو معدود في أسماء الأفعال ، فإن كان الفعل متعديا ، كان اسمه متعديا ، وإن كان لازما ، [ ص: 37 ] كان لازما . ( وعليكم ) اسم لقولك الزم ، فهو متعد ، فلذلك نصب المفعول به ، والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم ، أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطبا ، جاز أن يؤتى بالضمير منفصلا ، فتقول : عليك إياك ، أو يؤتى بالنفس بدل الضمير ، فتقول : عليك نفسك ، كما في هذه الآية . وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ ( عليكم أنفسكم ) بالرفع ، وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما; يرتفع على أنه مبتدأ ، وعليكم في موضع الخبر ، والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيدا للضمير المستكن في ( عليكم ) ، ولم تؤكد بمضمر منفصل ، إذ قد جاء ذلك قليلا ويكون مفعول ( عليكم ) محذوفا; لدلالة المعنى عليه . والتقدير عليكم أنفسكم هدايتكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . وقرأ الجمهور ( لا يضركم ) بضم الضاد والراء وتشديدها . قال الزمخشري : وفيه وجهان : أن يكون خبرا مرفوعا ، وينصره قراءة أبي حيوة ( لا يضركم ) ، وأن يكون جوابا للأمر مجزوما ، وإنما ضمت الراء إتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة ، والأصل لا يضركم ، ويجوز أن يكون نهيا انتهى . وقرأ الحسن بضم الضاد ، وسكون الراء ، من ضار يضور . وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء ، من ضار يضير ، وهي لغات .

( إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) أي مرجع المهتدين والضالين . وغلب الخطاب على الغيبة ، كما تقول : أنت وزيد تقومان ، وهذا فيه تذكير بالحشر ، وتهديد بالمجازاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية