صفحة جزء
[ ص: 237 ] سورة الأنعام .

( وهي السورة السادسة ، وآياتها 165 عند القراء الكوفيين ، وعليه مصحف الحكومة المصرية وفلوجل و166 عند البصريين والشاميين و167 عند الحجازيين ) .

هي مكية قيل : إلا آية واحدة هي قوله تعالى : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) ( 111 ) فإنها مدنية . رواه ابن المنذر عن أبي جحيفة وقيل : إلا آيتين نزلتا في المدينة في رجل من اليهود قال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فنزل فيهم : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) ( 91 ) الآيتين رواه أبو الشيخ عن الكلبي وسفيان وقيل : هما ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم ) ( 151 ) إلى آخر الآيتين ، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن شهر بن حوشب ، وما قبله أقوى من جهة معنى الآيتين ، فإنه في محاجة اليهود الذين كانوا في المدينة ، وأما ( قل تعالوا ) الآيتين فمعناهما من موضوع السور المكية ، وهم متصلتان بما بعدهما ، وقيل : إن الآية الثالثة بعدهما مدنية أيضا ، كما رواه ابن النحاس عن ابن عباس وسيأتي قريبا وقيل : إلا ست آيات ( وما قدروا الله حق قدره ) إلى آخر الآيتين بعدها و ( قل تعالوا ) إلى آخر الآيتين بعدها : وهذا جمع بين الأقوال السابقة كلها .

وقال السيوطي في الإتقان : قال ابن الحصار : استثنى منها تسع آيات ولا يصح به نقل ، خصوصا مع ما قد ورد أنها نزلت جملة ( قلت ) قد صح النقل عن ابن عباس باستثناء ( قل تعالوا ) الآيات الثلاث كما تقدم . والبواقي ( وما قدروا الله حق قدره ) لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف ، وقوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) ( 21 ، 93 ) الآيتين ، نزلتا في مسيلمة . وقوله : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) ( 20 ) وقوله : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) ( 114 ) اهـ .

أقول : قد ثبت أن بعض الآيات كانت تصدق على وقائع تحدث بعد نزولها أو قبله للاستشهاد أو الاحتجاج بها في الواقعة منها ، فيظن من سمعها حينئذ من الصحابة ولم يكن سمعها من قبل أنها نزلت في تلك الواقعة . وكثيرا ما كان يقول الصحابة : إن آية كذا نزلت في كذا وهو يريد أنها نزلت في إثبات هذا الأمر أو حكمه أو دالة عليه ، فيظن الراوي عنه أنها عند حدوث ذلك الأمر ، والصحابي لا يريد ذلك . وقد نقل السيوطي هذا المعنى عن ابن تيمية والزركشي ، والتحقيق أن مثل هذا يعد من التفسير لا من الحديث المسند . ولما كان وجود آيات مدنية في سورة مكية أو آيات مكية في سورة مدنية خلاف الأصل ، فالمختار عدم قبول القول به إلا إذا ثبت برواية صحيحة السند صريحة [ ص: 238 ] المتن سالمة من المعارضة والاحتمال ، وإننا لم نرهم صححوا مما رواه من الاستثناء إلا رواية ابن عباس في استثناء ثلاث آيات هن من موضوع السور المكية ، ولعلهم لو ذكروا لنا الرواية بنصها لما وجدنا فيها حجة على ما قالوا .

وأما ما روي في نزول الأنعام جملة واحدة فقد أخرجه غير واحد من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين ففي الإتقان أنه أخرجه أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس ، والطبراني من طريق يوسف بن عطية وهو متروك عن ابن عمر مرفوعا وعن مجاهد وعطاء ، وفي كل رواية من هذه الروايات أنها نزلت يشيعها سبعون ألف ملك إلا أثر مجاهد فإنه قال فيه خمسمائة ملك . قال السيوطي : فهذه شواهد يقوي بعضها بعضا ، ثم نقل عن ابن الصلاح أنه روى ذلك من طريق أبي بن كعب بسند ضعيف وقال : ولم نر له إسنادا صحيحا ، وقد روي ما يخالفه ، فروي أنها لم تنزل جملة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث وقيل ست وقيل غير ذلك انتهى . وعزاه في الدر المنثور إلى آخرين أخرجوه أيضا عمن ذكر وعن أنس وأبي بن كعب مرفوعا وعن ابن مسعود وأسماء بنت يزيد وأبي جحيفة وعلي المرتضى ، فكثرة الروايات في مسألة لا مجال فيه للرأي فتكون اجتهادية ، ولا للهوى فتكون موضوعة ، ولا لغلط الرواة فتكون معلولة لا بد أن يكون لها أصل صحيح .

ونقول : إنه لم يرو أحد أنها لم تنزل جملة واحدة بهذا اللفظ المناقض لتلك الروايات المصرحة بنزولها جملة واحدة كحديث ابن عمر " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك " وإنما مراد ابن الصلاح بذلك ما روي من استثناء بعض الآيات ، وقد علمت أنه ليس فيه نص صحيح صريح يدل على ذلك ، فرواية نزولها جملة واحدة أرجح بموافقتها للأصل وبكونها مثبتة ، وروايات الاستثناء نافية ، والمثبت مقدم على النافي ، وقد جمع بينهما من قال : إنها نزلت جملة واحدة واستثنى كابن عباس ( والاستثناء معيار العموم ) وإذ كان ما صححه السيوطي من استثناء ثلاث آيات على ابن عباس هو ما رواه ابن النحاس عنه في ناسخه فقد انحل الإشكال ، فإن نص عبارته : سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ( قل تعالوا أتل ) إلى تمام الآيات الثلاث اهـ . فقد صح بهذه الرواية إذا أن هذه السورة الطويلة نزلت جملة واحدة ، وهذا نص توقيفي عرف أصله المرفوع فهو لا يحتمل التأويل ، على أن استثناء الآيات الثلاث فيه يحتمل التأويل كما تقدم ، وابن عباس لم يكن بمكة ممن يحفظ القرآن ويروي الحديث ، فإنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين أو خمس ، وإنما روي ذلك عن غيره فيحتمل أن يكون الاستثناء من رأيه أو رأي من روى هو عنه ، وأن يكون مرويا عنه بالمعنى ويكون بعض [ ص: 239 ] الرواة هو الذي عبر بالاستثناء ، وإذا كان هذا الاستثناء صحيحا فقصاراه أن السورة بعد أن أنزلت جملة واحدة ألحق بها ثلاث آيات مما نزلت بالمدينة ، فبطل بذلك ما قد يتوهم من كلام ابن الصلاح وما يظنه كثير من الناس من أنه لم ينزل شيء من السور الطوال ولا سور المئين جملة واحدة; لأن ما اشتهر نزوله جملة واحدة غير هذه السورة كله من المفصل ( وسور المفصل من " ق " أو " الحجرات " إلى آخر المصحف في الأشهر ) وقد روى أبو هريرة ما يدل على أن قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( 26 : 214 ) نزل بالمدينة ، وقد ثبت عن ابن عباس أنه نزل بمكة ، وأنه لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وأنذرهم عملا بالآية قال له أبو لهب : تبت يداك سائر اليوم ألهذا دعوتنا ؟ فأنزل الله عز وجل : ( تبت يدا أبي لهب ) ( 111 : 1 ) السورة ، وإنما يروي ابن عباس وأبو هريرة مثل هذا مرسلا إذ لم يكن لهما رواية مرفوعة إلا بعد الهجرة بسنين ، وقد صرح الحافظ ابن حجر في الفتح بأن روايتهما لنزول آية ( وأنذر عشيرتك ) مرسلة وكلتاهما في البخاري .

وقد مال السيد الآلوسي في روح المعاني إلى القول بضعف ما ورد في نزول الأنعام جملة واحدة ، ونقل عن الإمام حكاية الاتفاق على القول بنزولها جملة وأنه استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها : إن سبب نزولها الأمر الفلاني ، مع أنهم يقولونه ؟ ثم أشار إلى ضعف حكاية الإمام الاتفاق .

ويمكن أن يدفع الإشكال ( أولا ) بأنه لم يقل أحد بأن لكل آية من آيات هذه السورة سببا ، وإنما قيل ذلك في زهاء عشر من آياتها . ( وثانيا ) أن ما قيل في أسباب نزول تلك الآيات بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة ، وإنما قالوا إن آية كذا نزلت في كذا أو في قول المشركين كيت وكيت ، وهذا هو الأكثر ، فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد تلك الوقائع والأقوال مبينة حكم الله فيها ، وهذا لا ينافي نزولها دالة على ذلك في ضمن السورة .

وقال الإمام الرازي في أول تفسيره لهذه السورة قال الأصوليون : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة . والثاني : أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة . والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين ، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة ، وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل ، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة . وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي . اهـ .

ومراده بالأصول عقائد الدين ، وإنما يجب تعلمها على طريقة القرآن لا على طريقة [ ص: 240 ] المتكلمين وفلاسفة اليونان . ولم يذكر في الكلام عن السورة في أولها ما نقله عن الآلوسي فلعله ذكره في أثناء تفسير السورة ، فإن لقب " الإمام " إذا أطلق في كتب من بعد الرازي من المفسرين والمتكلمين والأصوليين والمنطقيين فإنما ينصرف إليه . وفي فتح البيان قال القرطبي : قال العلماء هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية