فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب .

مخلف منتصب على أنه مفعول " تحسبن " ، وانتصاب ( رسله ) على أنه مفعول ( وعده ) ، قيل : وذلك على الاتساع ، والمعنى : مخلف رسله وعده .

قال القتيبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير ، والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ومخلف رسله وعده ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :


ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

وقال الزمخشري : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ آل عمران : 31 ] ثم قال رسله ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته والمراد بالوعد هنا هو ما وعدهم سبحانه بقوله : إنا لننصر رسلنا [ غافر : 51 ] [ ص: 754 ] و كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] وقرئ " مخلف وعده رسله " بجر رسله ونصب وعده .

قال الزمخشري : وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ : قتل أولادهم شركائهم إن الله عزيز غالب لا يغالبه أحد ذو انتقام ينتقم من أعدائه لأوليائه . والجملة تعليل للنهي ، وقد مر تفسيره في أول آل عمران .

يوم تبدل الأرض غير الأرض قال الزجاج : انتصاب ( يوم ) على البدل من يوم يأتيهم ، أو على الظرف للانتقام . انتهى . ويجوز أن ينتصب بمقدر يدل عليه الكلام ، أي : واذكر أو وارتقب ، والتبديل قد يكون في الذات كما في : بدلت الدراهم دنانير ، وقد يكون في الصفات كما في : بدلت الحلقة خاتما ، والآية تحتمل الأمرين ، وقد قيل : المراد تغير صفاتها ، وبه قال الأكثر ، وقيل : تغير ذاتها ، ومعنى " والسماوات " أي وتبدل السماوات غير السماوات على الاختلاف الذي مر وبرزوا لله الواحد القهار أي برز العباد لله أو الظالمون كما يفيده السياق ، أي : ظهروا من قبورهم ، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه ، والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله : ونفخ في الصور [ الكهف : 99 ] ، [ يس : 51 ] و " الواحد القهار " المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده .

وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد معطوف على " برزوا " أو على " تبدل " ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ، والمجرمون هم المشركون ، و يومئذ يعني يوم القيامة ، و مقرنين أي مشدودين إما بجعل بعضهم مقرونا مع بعض ، أو قرنوا مع الشياطين كما في قوله : نقيض له شيطانا فهو له قرين [ الزخرف : 36 ] أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم ، والأصفاد : الأغلال والقيود ، والجار والمجرور متعلق بـ مقرنين أو حال من ضميره ، يقال صفدته صفدا ، أي : قيدته ، والاسم الصفد ، فإذا أردت التكثير قلت صفدته .

قال عمرو بن كلثوم :


فآبوا بالنهاب وبالسبايا     وأبنا بالملوك مصفدينا

وقال حسان بن ثابت :


من بين مأسور يشد صفاده     صقر إذا لاقى الكريهة حامي

ويقال صفدته وأصفدته : إذا أعطيته ، ومنه قول النابغة :


ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد

سرابيلهم من قطران السرابيل : القمص ، واحدها سربال ، ومنه قول كعب بن مالك :


تلقاكم عصب حول النبي لهم     من نسج داود في الهيجا سرابيل

والقطران : هو قطران الإبل الذي تهنأ به ، أي : قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل ، وخص القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته .

وقال جماعة : هو النحاس ، أي : قمصانهم من نحاس .

وقرأ عيسى بن عمر " من قطران " بفتح القاف وتسكين الطاء .

وقرئ بكسر القاف وسكون الطاء ، وقرئ بفتح القاف والطاء ، رويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب ، وهذه الجملة في محل نصب على الحال وتغشى وجوههم النار أي تعلو وجوههم وتضربها ، وخص الوجوه لأنها أشرف ما في البدن ، وفيها الحواس المدركة ، والجملة في محل نصب على الحال أيضا .

و ( ليجزي الله ) متعلق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك بهم ليجزي كل نفس ما كسبت من المعاصي ، أي : جزاء موافقا لما كسبت من خير أو شر إن الله سريع الحساب لا يشغله عنه شيء .

وقد تقدم تفسيره .

( هذا بلاغ ) أي هذا الذي أنزل إليك بلاغ ، أي : تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير .

قيل : إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله : ولا تحسبن الله غافلا إلى سريع الحساب [ إبراهيم : 42 : 51 ] أي هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة ، وقيل : الإشارة إلى جميع السورة ، وقيل : إلى القرآن ، ومعنى " للناس " للكفار ، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله : وأنذر الناس [ إبراهيم : 44 ] ( ولينذروا به ) معطوف على محذوف ، أي : لينصحوا ولينذروا به ، والمعنى : وليخوفوا به ، وقرئ " ولينذروا " بفتح الياء التحتية والذال المعجمة ، يقال نذرت بالشيء أنذر : إذا علمت به فاستعددت له وليعلموا أنما هو إله واحد أي ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقا وحدانية الله سبحانه ، وأنه لا شريك له وليذكر أولو الألباب أي : وليتعظ أصحاب العقول ، وهذه اللامات متعلقة بمحذوف ، والتقدير : وكذلك أنزلنا ، أو متعلقة بالبلاغ المذكور ، أي : كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه وأنه لا شريك له ، وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك .

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : إن الله عزيز ذو انتقام قال : عزيز والله في أمره ، يملي وكيده متين ، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة .

وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان قال : جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في الظلمة دون الجسر .

وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث عائشة .

قالت " أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية
يوم تبدل الأرض غير الأرض
قلت : أين الناس يومئذ ؟ قال : على الصراط .

وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن عساكر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : أرض بيضاء ، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يعمل بها خطيئة .

وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عنه موقوفا نحوه ، قال البيهقي : الموقوف أصح .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال أتى اليهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : [ ص: 755 ] أرض بيضاء كالفضة ، فسألهم فقالوا : أرض بيضاء كالنقي .

وأخرج ابن مردويه مرفوعا عن علي نحو ما تقدم عن ابن مسعود .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس موقوفا نحوه ، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي .

وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده الحديث .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : مقرنين في الأصفاد قال : الكبول .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في الأصفاد قال : القيود والأغلال .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في السلاسل .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الأصفاد يقول : في وثاق .

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي سرابيلهم قال : قمصهم .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : من قطران قال : قطران الإبل .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : هذا القطران يطلى به حتى يشتعل نارا .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو النحاس المذاب .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ من قطران فقال القطر : الصفر ، والآن : الحار .

وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه .

وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : هذا بلاغ للناس قال : القرآن ولينذروا به قال : القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية