التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1718 مالك ، عن أيوب بن حبيب - مولى سعد بن أبي وقاص - عن أبي المثنى الجهني أنه قال : كنت عند مروان بن الحكم ، فدخل عليه أبو سعيد الخدري ، فقال له مروان بن الحكم : أسمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النفخ في الشراب ؟ فقال له أبو سعيد : نعم فقال له رجل : يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد ، فقال له رسول الله : فأبن القدح عن فيك ثم تنفس ، قال : فإني أرى القذاة فيه ، قال : فأهرقها .


أبو المثنى الجهني لا أقف على اسمه ، واسم أبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان ، قد أتينا على ذكر نسبه ووفاته في كتابنا في الصحابة ، والقذاة ما وقع في إناء الشارب من عود أو ورقة أو ريشة أو نحو ذلك مما يؤذي الشارب .

وفي هذا الحديث من الفقه دخول العالم على السلطان .

[ ص: 392 ] وفيه ما كان عليه الأمراء والسلاطين في سالف الأيام في الإسلام من السؤال عن العلم والبحث عنه ومجالسة أهله .

وفيه القراءة على العالم ، وأن قوله نعم يقوم مقام إخباره ، وكذلك الإقرار يجري عندنا هذا المجرى ، وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه ، وهو أن يقال للرجل ألفلان عندك كذا ؟ فيقول : نعم ، فيلزمه ، كما لو قال : لفلان عندي كذا .

وفيه الرخصة في الزيادة على الجواب إذا كان من معنى السؤال .

وفيه إباحة الشرب في نفس واحد ، وكذلك قال مالك رحمه الله ، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال : أخبرنا محمد بن فطيس قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم قال : حدثنا عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه رأى في قول النبي عليه السلام للرجل الذي قال له : إني لا أروى من نفس واحد ، فقال له النبي عليه السلام " فأبن القدح عن فيك " قال مالك : فكأني أرى في ذلك الرخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء ، ولا أرى بأسا بالشرب من نفس واحد ، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث : إني لا أروى من نفس واحد .

قال أبو عمر : يريد مالك رحمه الله أن النبي عليه السلام لم ينه الرجل حين قال له : إني لا أروى من نفس واحد ، أن يشرب في نفس واحد ، بل قال له كلاما معناه فإن كنت لا تروى في نفس واحد فأبن القدح عن فيك ، وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد إن شاء الله .

[ ص: 393 ] وقد رويت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد ، وليس منها شيء تجب به حجة ، فمن ذلك ما حدثني خلف بن القاسم رحمه الله ، قال : حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي الفقيه ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن راشد الإمام قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثنا إبراهيم بن أبي حبيبة قال : أخبرني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الشراب بنفس واحد شرب الشيطان ، وإبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف لا يحتج به ، ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب ، وأخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي الطائي قال : حدثنا علي بن حرب الطائي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس قال : كان أبي إذا رآني أشرب بنفس واحد نهاني .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا الثقفي ، عن خالد ، عن عكرمة أنه كره الشرب بنفس واحد ، وقال : هو شرب الشيطان .

وأخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال : حدثنا ابن وضاح قال : كنت أرى سحنون إذا أتى بالماء يشربه يسمي الله ثم يتناول منه شيئا ثم يرفع رأسه فيحمد الله ، رأيته يفعل ذلك مرارا .

[ ص: 394 ] قال أبو عمر : فعل سحنون هذا حسن في الأدب وليس بسنة ، ولكنه أهنأ وأمرأ ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، ولعل سحنون بلغه في ذلك ما كان ابن عيينة يرويه عن إسرائيل ، عن كهمس ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشرب في ثلاثة أنفاس أمرأ وأشفى وأشهى وأبرأ وقد لقي سحنون ابن عيينة وأخذ عنه .

وجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة ، ووكيع ، وإسرائيل ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، عن أبي عصام ، عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله - صلى الله عليه - إذا شرب تنفس ثلاثا ، ويقول : هو أهنأ وأمرأ وأبرأ .

وذكر أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة له ، قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : أخبرنا يحيى بن عثمان الحمصي قال : أخبرنا اليمان بن عدي الحمصي قال : حدثني ثابت بن كثير الضبي البصري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن بهز قال : كان [ ص: 395 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضا ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا ، ويقول : هذا أهنأ وأمرأ وأبرأ ، قال : وأخبرنا جعفر بن محمد الزعفراني قال : أخبرنا عمر بن علي بن أبي بكر الكندي قال : أخبرنا علي بن ربيعة القرشي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن ربيعة بن أكثم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه - يستاك عرضا ويشرب مصا ، ويقول : هو أهنأ وأمرأ .

قال أبو عمر : هذان الحديثان حديث بهز وحديث ربيعة بن أكثم ، ليس لإسناديهما عن سعيد أصل ، وليسا بصحيحين من جهة الإسناد عندهم ، وقد جاء عن جماعة من السلف إجازة الشرب في نفس واحد كما قال مالك رحمه الله ، أخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس قال : حدثنا بقي بن مخلد قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سالم ، عن عطاء أنه كان لا يرى بالشرب بالنفس الواحد بأسا ، قال أبو بكر : وحدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن يزيد قال : لم أر أحدا كان أعجل إفطارا من سعيد بن المسيب ، كان لا ينتظر مؤذنا ، ويؤتى بالقدح من ماء فيشربه بنفس واحد لا يقطعه حتى يفرغ منه ، هذا أصح عن سعيد قال : وحدثنا الثقفي ، عن أيوب قال : نبئت ، عن ميمون بن مهران قال : رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب ، فجعلت أقطع شرابي وأتنفس ، قال : إنما نهي أن يتنفس في الإناء ، فإذا لم تتنفس فاشربه إن شئت بنفس واحد .

[ ص: 396 ] قال أبو عمر : قول عمر بن عبد العزيز في هذا هو الفقه الصحيح في هذه المسألة ، والنهي عن النفخ في الشراب المذكور في حديث مالك في هذا الباب هو عندي كالنهي عن التنفس في الإناء سواء ، والله أعلم .

ألا ترى إلى قوله في الحديث : فأبن القدح عن فيك ثم تنفس ، وإذا لم يجز التنفس في الإناء لم يجز النفخ فيه لأنه مثله وقطعة منه ، وحدثني خلف بن القاسم الحافظ قال : حدثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الأسواني قال : وكان فاضلا رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام قال : حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه - أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه .

وحدثنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن فطيس ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا أنس بن عياض ، عن الحارث بن عبد الرحمن الدوسي ، عن عمه ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه ، ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخر عنه ثم يتنفس .

[ ص: 397 ] قال أبو عمر : في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وأكثر الآثار إنما جاءت بالنهي عن التنفس في الإناء ، وقد قلنا إن المعنى واحد ، والنهي عن هذا نهي أدب لا نهي تحريم ; لأن العلماء قد أجمعوا أن من تنفس في الإناء ، أو نفخ فيه لم يحرم عليه بذلك طعامه ولا شرابه ، ولكنه مسيء إذا كان بالنهي عالما ، وكان داود بن علي القياسي يقول : إن النهي عن هذا كله وما كان مثله نهي تحريم ، وهو قول أهل الظاهر لا يجوز عند واحد منهم أن يشرب من ثلمة القدح ، ولا أن يتنفس في الإناء ، ومن فعل شيئا من ذلك كان عاصيا لله عندهم إذا كان بالنهي عالما ، ولم يحرم عليه طعامه .

واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله ورد النهي عن التنفس في الإناء ، فقال قوم : إنما ذلك لأن الشرب في نفس واحد غير محمود عند أهل الطب ، وربما آذى الكبد ، وقالوا : الكبد من العب ، فكره ذلك لذلك ، كما كره الاغتسال بالماء المسخن بالشمس لأنه قيل : يورث البرص .

قال أبو عمر : ما أظن هذا صحيحا من قولهم أنه يورث البرص ، وفي قوله - صلى الله عليه - هو أهنأ وأمرأ وأبرأ ، حجة لهذا القول .

وقال آخرون : إنما نهي عن التنفس في الإناء ليزيل الشارب القدح عن فيه ; لأنه إذا أزاله عن فيه صار مستأنفا للشرب ، ومن سنة الشراب أن يبتديه المرء بذكر الله ، فمتى أزال القدح عن فيه حمد الله ثم استأنف فسمى الله ، فحصلت له بالذكر حسنات ، فإنما جاء هذا رغبة في الإكثار من ذكر الله على الطعام والشراب .

[ ص: 398 ] قال أبو عمر : وهذا تأويل ضعيف ; لأنه لم يبلغنا أن النبي عليه السلام كان يسمي على طعامه إلا في أوله ، ويحمد الله في آخره ، ولو كان كما قال من ذكرنا قوله لسمى عند كل لقمة وحمد عند كل لقمة ، وهذا لم يرو عنه ولا نعلم أحدا فعله عند كل لقمة من طعامه ، وإن فعله أحد لم أستحسنه له ولم أذمه عليه ، وقد روي حديث بمثل هذا المعنى رواه وكيع ، عن يزيد بن سنان أبي فروة الجزري ، عن ابن لعطاء بن أبي رباح ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشربوا واحدة كشرب البعير ، ولكن اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا شربتم ، واحمدوا إذا رفعتم .

وقال آخرون : إنما نهي عن التنفس في الإناء لأدب المجالسة ; لأن المتنفس في الإناء قل ما يخلو أن يكون مع نفسه ريق ولعاب ، ومن سوء الأدب أن يشرب ثم يناول جليسه لعابه ، ألا ترى أنه لو عمد إلى الإناء فشرب منه ثم تفل فيه وناوله جليسه ، أن ذلك مما تقذره النفوس وتكرهه ، وليس من أفعال ذوي العقول ، فكذلك من تنفس في الإناء ; لأنه ربما كان مع تنفسه أكثر من التفل من لعابه ، والله أعلم .

وروى عقيل ، عن ابن شهاب قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه - نهى عن النفخ في الطعام والشراب ، قال : ولم أر أحدا كان أشد في ذلك من عمر بن عبد العزيز ، وبالله التوفيق .

فرغ الألف ، وليس في شيوخ مالك أحد ممن له عنه شيء من حديث النبي عليه السلام في موطئه أول اسمه باء ، أو تاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية