الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأطفال واللغة العربية

الأطفال واللغة العربية

الأطفال واللغة العربية

يدافع الدكتور عبد الله مصطفى الدنان عن نظريةٍ مفادها أنه يمكن اكتساب اللغة العربية الفصحى بالفطرة ، وأنه يمكن تعليمها للأطفال فى البيت وأكثر من ذلك، قبل بلوغ سن السادسة من العمر، أى قبل دخول المدرسة أصلاً.

والدكتور الدنان، وهو أستاذ جامعى فلسطينى ، مارس رسالة التربية والتعليم فى مختلف المؤسسات التعليمية أكثر من نصف قرن وله بحوث لغوية ونتاج أدبي شعرى وقصصي، وتحمل سلسلة قصصه للأطفال الاسم "الحيوانات تفكر".
وهو المقتنع بأن الفشل فى تعليم العربية الفصيحة لا ينبع من صعوبتها بل من مناهج تدريسها.

بدأ تطبيق نظريته هذه، نظرية اكساب الطفل العربية الأدبية بالفطرة والممارسة، على ولديه فى البيت وقد ملكا ناصيتها وهما يافعان.
تستند رؤية الدنان فى تعليم العربية الفصحى للطفل إلى الحقيقة العلمية القائلة: إن للأطفال حتى سن السادسة قدرة فطرية ضخمة لاكتساب المهارات اللغوية.
وقد كشف علماء لغة معروفون منذ نصف قرن مثل "نعوم تشومسكى" و"إرفن" و"لينبرغ" عن تلك الطاقة الفعالة فى دماغ الطفل فى تعلم اللغات وإماطة اللثام عن المنظومة القواعدية بشكل ذاتى داخلى ومعقد ، وسماها " تشومسكى" الطاقة الفطرية أو النظام فى المخ باسم Language Acquisition Device , LAD
، وفى مقدور الطفل إجادة لغتين أو أكثر فى آن واحد إذا ما وجد فى ظروف طبيعية لاستعمال هذه اللغات. يقوم الطفل كلغوى صغير باستخدام غير متناه لوسائل متناهية كما قال. وقد أشار "لينبرغ" إلى أن هذه القدرة اللغوية الفطرية تأخذ بالضمور والانحسار بعد السن السادسة وتتلاشى قريباً من سنّ البلوغ، حيث تأتى مرحلة منصبّة بمعظمها على اكتساب المعرفة. بعبارة أخرى، بعد عمر الست سنين يحتاج الطفل لبذل جهد ملحوظ فى عملية تعلم اللغة وغالبا ما تكون عبر برامج دراسية منتظمة وطويلة.

ويطلق عادة على اللغة التى اكتسبها الطفل فى السنوات الست الأولى "لغة الأم" ويتم هذا التحصيل العفوى دون لأيٍّ أو تعب بعكس ما يحصل بعد هذه السن.
ولللغة الأولى تأثير سلبى فى مرحلة تعلم اللغات الأخرى نحواً وصرفاً. صفوة القول، لغة الأم لدى كل عربى هى لهجة معينة وما أكثر هذه اللهجات فى عالمنا العربي، أما الفصحى فليست لغة أم أى عربى بالمعنى المتعارف عليه لهذا المصطلح.
واقع التلميذ العربى على ضوء هذا الأساس العلمى النظرى لافت حقاً للانتباه والتفكير. يلتحق هذا التلميذ بالصف الأول بعد إتقانه للهجته الخاصة بأهله وبمكان سكناه إلا أن هذه اللهجة ليست وسيلة لاكتساب العلم والمعرفة وفق المناهج التعليمية الرسمية وينبغى عليه تعلم لغة تختلف كثيراً عن لهجته تلك، العربية الفصيحة.

وضعُ هذا التلميذ صعب، إنه معاكس لطبيعة الخلق، قدرته الدماغية لتعلم اللغات آخذة بالتناقص زد إلى ذلك الحاجة الملحة لاكتساب أصناف مختلفة من المعرفة فى مواضيع كثيرة كالدين والحساب والرسم وجميع المعارف. بعبارة موجزة على ابن العرب أن يتعلم المعرفة ووسيلتها، اللغوية، فى آن واحد، فى حين أن أطفال الشعوب الأخرى يكرّسون اهتمامهم الرئيس فى تحصيل العلم والمعرفة. وقد قيل “إن التلميذ العربى يشبه الصياد الذى ذهب إلى البحر ونسى شبكة الصيد”.
وهذا الازدواج اللغوى العميق، اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة يرافق الانسان العربى وينغّص حياته التعليمية فترة طويلة من عمره وقلما تغدو الفصحى لغة أم.

و اللهجة قد تستخدم لغة تواصل وشرح للمادة التدريسية ويُلجأ للفصحى عند القراءة والكتابة. يشرح المعلم المواد التدريسية بالعامية لأنه أولاً: وفى الغالب الأعمّ لا يتقن اللغة الفصيحة.
وثانياً : بغية إيصال المعرفة للتلميذ الذى لا يعرف الفصحى أيضاً، ويتخبط التلميذ بين محاولة فهم المادة من جهة والقدرة على التعبير عن ذلك بالفصحى، كما يطلب منه من جهة أخرى، وكثيراً ما ينتج عن مثل هذه الظروف الضاغطة والمحبطة حفظ المادة عن ظهر قلب دون فهم قسم كبير منها. يعانى الطفل العربى من صعوبة فى فهم المادة بسبب اللغة ومن صعوبة فى التعبير عن هذا الفهم الجزئى وغالبا ما يولى طريقة التعبير أهمية كبرى على حساب المضمون. ومن الأقوال الشائعة أنه على العربى الفهم أولاً ليقرأ بشكل سليم ثانياً، بعكس معظم شعوب العالم. وهذه العلاقة غير الودية ما بين التلميذ منذ نعومة أظفاره والكتاب أى اللغة المكتوبة، تنمو وتتفاقم لتصل إلى ما نلمسه فى أيامنا هذه ، أمة إقرأ لا تقرأ، وإن قرأت فبالأذنين.
ومن البدهى أن حفظ المادة غير المقرون بالفهم والتفكيك والتحليل لا يتمخّض عنه نمو منطقى ومعرفى واسع وعميق ومستديم.
وهناك بعض البحوث التى تربط ما بين الضعف العام فى الرياضيات وضعف الطلبة فى اللغة العربية الفصحى.
بعبارة قصيرة، فهم المقروء معضلة تربوية جوهرية يعانى منها الطالب العربى حتى بعد المرحلة الثانوية ولا بد من بحث هذه النقطة بشكل شامل ودورى والعمل على إيجاد الحلول الناجعة للقضاء على هذه الظاهرة المؤرقة.

على ضوء هذا يرى الدكتور الدنان ضرورة استغلال القدرة الفطرية الطفلية فى اكتساب العربية الفصحى قبل سن السادسة "انظر فى كتابه: برنامج تعليم المحادثة باللغة العربية الفصحى. القاهرة 2006".
وكان الدنان قد قام بهذه التجربة الرائدة على ابنه البكر “باسل” عندما كان ابن أربعة أشهر فى بدايات العام 1978، أى مخاطبته بالعربية الفصيحة " المعربة" فى حين تحدثت الوالدة إليه بالعامية الدمشقية.
ولوحظ أن الابن بدأ بالاستجابة للكلام الفصيح فهماً عندما بلغ عمره عشرة أشهر. ولدى د الدنان اثنا عشر شريطاً مسجلاً، لابنه وهو فى سن الثالثة كان باسل قادراً على التواصل بالفصحى دون أخطاء وهناك شريط فيديو يؤرخ لهذه الفئة العمرية وفى مرحلة الصف الثانى كان باسل قد قرأ ثلاثمائة وخمسين كتاباً.

واستمر الدكتور الدنان بتجربته اللغوية الجريئة هذه مع ابنته "لونه" التى تصغر أخاها بأربعة أعوام وتكللت التجربة هذه بالنجاح أيضا. هؤلاء الثلاثة يتحادثون مع بعضهم بالفصحى أما مع الآخرين فيستعملون العامية. تجربة الدنان هذه شبيه بتجربة من أحيا لغة اليهود " العبرية " إليعزر بن يهودا "1858-1922" فى أواخر القرن التاسع عشر فى فلسطين مع ابنه "إيتمار" المعروف باللقب “الولد العبرى الأول”، تكلم بالعبرية الحديثة بعد أن كانت لغة مكتوبة "ميتة" مدة سبعة عشر قرناً من الزمان.
وإيتمار هذا المقدسى المولد كان نشيطاً فى الحركة الصهيونية وزاول مهنة الصحافة وكان له الفضل فى صياغة كلمات عبرية جديدة مثل ما معناه بالعربية: استقلال، سيارة، صحفي، لاسلكي، سياسي، مظلة شمسية، سابقة.
يتكون برنامج الدنان لتدريب المعلمين والمعلمات للتحدث بالفصحى من عشرة محاور تشمل مختلف الأنشطة والمواقف الحيوية داخل الصف وخارجه وتستغرق مدة التدريب ثلاثين ساعة فقط موزعة على خمسة عشر يوماً.

أسّس الدنان “دار الحضانة العربية” بالكويت فى أواخر الثمانينيات من القرن العشرين ثم “روضة الأزهار العربية” بدمشق عام 1992 ولغة التواصل ما بين المعلمات والأطفال هى الفصحى. وتشير التقارير التى أعدها باحثون ومربّون من أقطار عربية كمصر والمغرب والأردن وأخرى أجنبية كالولايات المتحدة وإنجلترا إلى نجاح هذه التجربة نجاحاً باهراً وقد طالبت هذه التقارير بتشجيع وتعميم هذه الفكرة.
ثمرة هذا الجهد الدؤوب تظهر فى أشرطة فيديو وقد حصل الدنان على ثلاث جوائز ذهبية فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى من اللجنة العلمية السورية لتقويم المبدعين وقامت روضات أخرى فى دمشق باتباع نفس النهج.

ويرى د الدنان أن للمرحلة الابتدائية أهمية قصوى فى إكساب فلذات أكبادنا ناصية اللغة العربية، العروة الوثقى بين العرب، فهى موحِّدة، واللهجات القطرية مفرِّقة. ومن المعروف أن الأسلوب التواصلى الوظيفى هو الأنسب والأحدث فى تعلم اللغات ويدعى هذا النمط من التعليم بما يمكن تعريبه بـ"الاستغراق" أو "التغطيس" اللغوي، استخدام لغة الهدف على الدوام ومع الجميع وفى كل الظروف والحيثيات داخل الصف وخارجه طيلة الدوام المدرسى الرسمي. بعبارة أخرى ربط اللغة بالواقع المعاش بكل تجلياته. "فالسماع أبو الملكات اللسانية" كما قال عالم الاجتماع الفذّ عبد الرحمن ابن خلدون ت 808هـ.

يبدو لنا أن تجربة الدنان تستحق كل اهتمام ونقاش وتطوير مستمر لأن الفكرة فى جوهرها صائبة وقد تساهم إذا ما توفّرت الإمكانيات وتظافرت الجهود لتوسيع هذه التجربة وتعميقها وتحسينها. واقع اللغة العربية اليوم لا يُحسد عليه، ضعف الأداء بها تحدثاً وقراءةً وكتابةً لا يحتاج لدليل وهذا يؤدى إلى العزوف عنها والتوجه لتعلم لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية.

ونذكر هنا أن إتقان العربية الفصحى استماعاً وتحدثاً وقراءةً وكتابةً واجب وحق بالنسبة لكل إنسان عربى و مسلم من أجل التعلم والتقدم الحضارى والإبداع الفكرى الذاتى والتماسك الثقافى لدى كافة الشعوب العربية والإسلامية.

ولا شك أننا بحاجة للغة مرنة متطورة باستمرار، نقدرها ونحافظ عليها، نتعلم فيها ونعلم بها جميع المساقات منذ روضة الأطفال وحتى الدراسات العليا. هذا التفاعل الجماعى المتدفق فى عملية الدراسة والتدريس والتلاقح مع الحضارة الإنسانية الراهنة سيولد لا محالة وثبة كبيرة فى الاتجاه الصحيح. إسرائيل بدأت باستعمال العبرية الحديثة كأداة تعليم لكل المواضيع وفى كل المراحل التعليمية بالرغم من أنها كانت لغة ميتة مدة طويلة وثروتها القاموسية كانت ضئيلة جدا.

العربية التى اتسع معجمها لكافة العلوم والمعارف فى العصر العباسى وفى العصر الذهبى الأندلسى قادرة للعب دور أكبر من غيرها مستقبلاً إذا أحرز ناطقوها التقدم العلمى المنشود وساهموا فى إخصاب الحضارة الإنسانية الراهنة.

لذلك نقول فليكن النحو فى الكلام كالملح فى الطعام. ليكن استعمال العربية الأدبية العصرية شاملاً لدى الجميع فى ساعات الدوام المدرسي، لدى جميع أعضاء الهيئة التدريسية وفى كل المواضيع التعليمية. أما خارج هذا الإطار التعليمي، فى الشارع وفى البيت يعود التلميذ للهجته وبمرور الزمن سيصبح العربى مسيطراً على هذين النمطين الرئيسين للغة الضاد.

ولا ريب فى أن الهوة بينهما ستردم باطراد متسارع. وليس من المستبعد بعد حقبة زمنية معينة من انتهاج التغطيس اللغوى الفصيح والإفادة القصوى من التكنولوجيا العالمية فى اكساب اللغة، أن نرى أعداداً متزايدة من العرب ذوى سليقة فصيحة مثل ذلك الأعرابى الذى أجاب اللغوى ابن جنى حول جمع بعض الأسماء: “فقال له الأعرابى “عثمانون” فقال له ابن جنّى هلا قلتَ “عثامين” "مثل دكاكين، وسراحين وقراطين" فأجاب الأعرابي: إيش عثامين! أرأيتَ إنساناً يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدا” "الخصائص 1/242".
وعندها يكون بمقدور العربى السليقى أن "يخاطب كلا بما يحسن" كما قال الأخفش الأوسط! وسيظل البقاء للأصلح والأقوى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة