الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إسلام الجن وعدَّاس النصراني

إسلام الجن وعدَّاس النصراني

إسلام الجن وعدَّاس النصراني

في شوال من السنة العاشرة للبعثة النبوية، خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف التي تبعد عن مكة نحو ستين ميلا، ماشيا على قدميه ذهابا وإيابا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، ولما انتهى إلى هناك عمد إلى نفر من سادات وأشراف ثقيف وهم: ابن عبد ياليل، ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه على الإسلام، ويمنعوه من قومه، فلم يلتفتوا إليه وعلقوا على دعوته ساخرين، فقال أحدهم: إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!!، فقام عنهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه ودعاه، فقالوا له اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، فلجأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بستان من عِنب لعتبة وشيبة ابني ربيعة علي بُعْدِ ثلاثة أميال من الطائف .

عدَّاس :

تحرّكت بعض العاطفة في قلبي ابنَي ربيعة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا اسمه عدّاس، وقالا له ـ كما ذكر ابن هشام وغيره في السيرة النبوية : " خذ قطفا من العنب، واذهب به إلى الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مد يده إليه قائلا: ( باسم الله ثم أكل، فقال عدّاس: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة!، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من أيّ البلاد أنت؟، قال: أنا نصراني من نينوى ( بلدة بالعراق )، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أمِنْ قرية الرّجل الصّالح يونس بن متّى؟، قال له: وما يدريك ما يونس؟، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ذلك أخي، كان نبيّا وأنا نبيّ، فأكبّ عدّاس على يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجليه يقبلهما، فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أمّا غلامك فقد أفسده عليك!، فلمّا جاء عدّاس قالا له: ويحك ما هذا؟، قال: ما في الأرض خير من هذا الرجل ) .

إسلام الجن :

حين انصرافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف، راجعا إلى مكة، وعند وادٍ في طريق مكة يسمى "نخلة" قام ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جوف الليل يصلي، فأتاه سبعة من الجن، استمعوا لقراءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته، أعلنوا إيمانهم وإسلامهم، ثم انصرفوا إلى قومهم دعاة، يحملون الإسلام إليهم، ويوضحون تعاليمه ومزاياه، وفي ذلك يقول الله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(الأحقاف 29: 32) .
وفي سورة الجن قال الله تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً }(الجـن 1: 2) إلى تمام الآية الخامسة عشرة .
ومن سياق هذه الآيات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث - تبين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعرف بحضور ذلك النفر من الجن، وإنما علم ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، وقد وفدوا بعد ذلك مرارا .
والآيات التي نزلت في ذلك تحمل في طياتها بشارات تؤكد أن سائر قوى الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبليغ دينه ودعوته، قال الله تعالى: { وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(الأحقاف:32)، وكان هذا الفتح في عالم الجن إرهاصًا وتمهيدًا لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الإنس، فقد تم لقاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وفد الأنصار بعد ذلك بعدة أشهر .

لقد أدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمانة وبلغ الرسالة كما أمره الله ـ عز وجل ـ على أتم وأكمل وجه، وليست الكثرة دليلا على الحق أو النجاح، فلن يهتدي أحد لدين الله وللحق الذي تدعوه إليه إلا إذا شاء الله، قال الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(البقرة: من الآية272)، وقال : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(القصص: من الآية56) .
وقد بذل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهده في دعوة أهل الطائف، ومع ذلك لم يتحقق له ما تمنَّى من هدايتهم، حيث ردوه وتعرضوا له بالإيذاء القولي والفعلي، لكن شاء الله ـ عز وجل ـ بفضله وحكمته أن تتحقق في هذه الرحلة الدعوية الشاقة بعض الانتصارات والفتوحات، فقد أسلم عداس النصراني ـ وهو من نينوي بالعراق ـ، وكذلك أسلم بعض الجن، وفي ذلك مواساة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث كان الصد من أهله وأقرب الناس إليه في بلده مكة .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة