الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة

الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة

الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة

ظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً إلى عبادة الله عز وجل، وإلى عقيدة التوحيد، ويحذرهم من الشرك وعبادة الأوثان، فلجأ كفار مكة إلى أسلوب الاضطهاد والتعذيب للمسلمين، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة حفاظاً عليهم، وفراراً بدينهم من الفتن، وقال لهم: (إن بأرض الحبشة ملِكاً لا يُظلم أحَد عنده)، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(النحل:41)، قال قتادة: "المراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين". وقال ابن كثير: "يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخِلّان، رجاء ثواب الله وجزائه. ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكنوا من عبادة ربهم".

الهجرة الأولى إلى الحبشة:
مِن الثابت في صحيح السيرة النبوية أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة مرتين، وكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة النبوية، وكانوا أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، ـ وقيل: وامرأتان ـ، خرجوا مشاة إلى البحر. وكان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم، وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
في أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة حدث أن النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ صلَّى في المسجد الحرام، فقرأ سورة النجم، فسجد في موضع السجود، وسجد كل مَن كان حاضراً مِن المسلمين والمشركين، فشاع أنَّ قريشا قد أسلمت. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنَّجْم، وسَجَدَ معهُ المسلمونَ والمشركون، والجنُّ والإنس) رواه البخاري. قال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "سجد النبي صلى الله عليه وسلم هذه السجدة امتثالاً لأمر الله سبحانه بالسجود، وشكراً للنعم العظيمة المعدودة في أول السورة من أنه لا ينطق عن الهوى، وقربه من الله تعالى.. (وسجد معه المسلمون) متابعة له صلى الله عليه وسلم في امتثال الأمر وإتيان الشكر. (والمشركون) أي الذين كانوا عنده. قال النووي: إنه محمول على مَن كان حاضراً قراءته.. (والجن) كان ابن عباس استند في ذلك إلى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم إما مشافهة له وإما بواسطة، لأنه لم يحضر القصة لصغره".
سمع المسلمون وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فعاد بعضهم إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحا فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، التي كانت أشق وأصعب من سابقتها، حيث تيقظت قريش لها، وقررت إحباطها، لكن المسلمين كانوا قد أحسنوا التخطيط والتدبير لها ويسَّر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن تدركهم قريش، وفي هذه المرة هاجر مِن الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً، وثماني عشرة امرأة. قال ابن حجر: " بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وكانوا أكثر من ثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية".

مَكيدة قريش بمهاجري الحبشة:
اغتاظ المشركون وعزَّ عليهم أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة - قبل أن يُسلما - وأرسلوا معهما الهدايا العظيمة للنجاشي ولِبطارقته، حتى يُرْجع النجاشي هؤلاء المهاجرين، وقد باءت مكيدة قريش بالفشل، فقد أسلم النجاشي وأبَى أن يردّهم، بل أعطاهم الأمان في أرضه، وأقرّهم على دينهم، وردّ رُسَل قريش لم ينالوا شيئاً مما ذهبوا إليه.
وتصف أم سلمة رضي الله عنها ما دار بين النجاشي وعمرو بن العاص فتقول: (نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤْذَى، ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلَدين (قويين شديدين)، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدَم (الجِلْد) ، فجمعوا له أدما كثيرة، ولم يتركوا مِن بَطارقته (كبار القادة والأساقِفة) بِطْريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص، وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بِطْريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدِّموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدِما على النجاشي فنحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بِطْريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء (تركوا دينهم)، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربّا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدَقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمْهُم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ اللهِ (أي: لا والله) إذًا لا أُسْلِمُهُم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتُهم إليهم ورددْتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني.
قالت (أم سلمة): ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قال: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟!
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كُنَّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإِسلام - فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَنْ سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ عليّ، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}(مريم:1) (بعض آيات من أوائل سورة مريم)، قالت (أم سلمة): فبكى والله النجاشي حتى اخضَلَّت (بُلَّت من دموعه) لحيتُه، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غداً عيبهم عنده، ثم أستاصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبْد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرْسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا (تجاوز) عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود.. وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار) رواه أحمد وصححه الألباني.

لقد كانت الهجرة إلى الحبشة ـ الأولى والثانية ـ فراراً مِن حالة الحصار والعذاب التي تعرَّض لها الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم، وانطلاقا إلى أرض جديدة للدعوة، وقد أظهرت هذه الهجرة مدى صبر الصحابة على الشدّة والبلاء، وفقههم للدعوة والحوار مع الغير ولو كان كافراً.. وقد ساعدت الهجرة إلى الحبشة المسلمين في الثبات على دينهم، وساهمت في نشر الإسلام في مكان غير مكّة المُكرَّمة، وأظهرت مدى حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بما حوله من الدول، وشفقته على أصحابه ورحمته بهم، وذلك في إشارته عليهم بالهجرة إلى الحبشة بقوله: (إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالْحقوا ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة