الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أفضل حفظ القرآن في المنزل ووالدتي تفضل المركز!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من فضلكم، هذا السؤال يؤرقني كثيرًا:
عندما لا أرغب في الذهاب إلى حلقة تحفيظ القرآن، وأُفضّل الحفظ في المنزل، تُجبرني والدتي على الذهاب، مع العلم أنني أرفض ذلك بسبب شدّة الحر وقت الظهيرة (الساعة 12)، ولا نملك سيارة، كما أن الحفظ يستمر لثلاث ساعات متواصلة، بينما أفضّل تقسيمه على مدار اليوم، أضِف إلى ذلك أن المركز لا يحتوي على أي وسيلة تبريد.

وعندما أخبر والدتي بهذه الأسباب، تلطم وجهها وتغضب غضبًا شديدًا، وتتهمني بالعقوق وتنهار عاطفيًا، ويحدث ذلك كل مرة أخالف فيها رأيها، مهما حاولت التوضيح، فهل ما أفعله يُعد عقوقًا؟ وإن كنت مخطئة، فماذا أفعل لأنال رضا الله وأكون بارةً بها؟

مع العلم أن أمي تمرّ بظروف وضغوطات لا يعلمها إلا الله، وهي امرأة عظيمة لا أنكر فضلها.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سناء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك ابنتي الكريمة: أقدر لك مشاركة مشاعرك وتساؤلاتك بكل صدق وشفافية، أسأل الله أن ييسر أمرك ويعينك على اتخاذ القرارات التي تُرضيه وتُريح قلبك.

اسمحي لي أولاً أن أقول: إن مشاعرك وهمومك مشروعة تماماً، وما تشعرين به من ضغط أو حيرة في التعامل مع والدتك هو أمر يمر به الكثير من الناس، خاصةً في العلاقات القريبة والتي تحمل قدراً عظيماً من المحبة والتقدير.

أولا: إن شعورك بعدم الراحة بسبب الظروف المحيطة بذهابك إلى مركز تحفيظ القرآن لا يعني أنك مقصرة أو عاقة، تعبك من الحر الشديد، وقلقك من عدم وجود وسائل تكييف، ورغبتك في تنظيم وقت الحفظ بطريقة مختلفة هي أمور طبيعية ومنطقية.

الحفظ ومراجعة القرآن الكريم عبادة عظيمة، ومن الجميل أنك حريصة عليها، لكن في الوقت نفسه، من الطبيعي أن يكون لديك رغبة في تحسين الظروف التي تؤدين فيها هذه العبادة.

كما أن مشاعرك تجاه ردود فعل والدتك – خاصة حين تصفك بالعقوق أو عندما تلجأ إلى لطم وجهها وتعبر عن غضبها– هي مشاعر مفهومة، قد تشعرين بالذنب أو الحيرة حيال كيفية إرضائها، وهذا يدل على أن قلبك مليء بالحب والاحترام لها، وهو أمر مهم جداً في علاقتك بها.

ثانياً: من المهم أن نحاول فهم دوافع والدتك، فهي بلا شك تحبك وتريد لك الخير، قد تكون الضغوط التي تمر بها – كما ذكرتِ – تؤثر على طريقة تعاملها مع المواقف، أحياناً عندما تكون الأم تحت ضغط كبير، قد تبالغ في ردود أفعالها أو تشعر بالحزن الشديد إذا لم يُنفذ طلبها بالطريقة التي تراها صحيحة، وهذا لا يعني أن مشاعرك أقل أهمية، بل يعني أن والدتك ربما تحتاج إلى دعم نفسي وعاطفي، وربما تعبر عن مشاعرها بطريقة قد تكون قاسية أحياناً دون أن تقصد.

في ديننا بر الوالدين من أعظم القربات إلى الله، وقد أمرنا الله ببرهما حتى في حالة وجود خلافات أو اختلاف في وجهات النظر، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:"وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا" (العنكبوت: 8) ويقول تعالى أيضاً: "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" (لقمان: 15)، حتى في أصعب الظروف، أمرنا الله بمصاحبة الوالدين بالمعروف، وهذا يشمل الصبر على تصرفاتهما والتعامل معهما بحكمة ورحمة.

ثالثاً: كيف يمكنك التوفيق بين رغبتك في الحفظ وبين إرضاء والدتك؟
لا شك أن التوفيق بين رغباتك الشخصية وبين بر والدتك، قد يكون تحدياً، لكن مع الحكمة والدعاء، بإذن الله ستجدين طريقاً وسطاً يحقق الخير لك ولها، إليك بعض النصائح التي قد تساعدك:
1. اختاري وقتاً تكون فيه والدتك هادئة ومسترخية، وتحدثي معها بصدق عن مشاعرك، يمكنك أن تعبري عن حبك واحترامك لها، ثم تشرحي لها بهدوء الأسباب التي تجعلك تجدين صعوبة في الذهاب إلى المركز، على سبيل المثال:
"أمي الغالية، أنا أحب القرآن، وأحب الحفظ، وأعلم أنك تريدين لي الخير دائماً، لكني أشعر بالتعب من الذهاب في هذا الوقت بسبب الحرارة وعدم وجود تبريد، أريد أن أستمر في الحفظ، لكن بطريقة مختلفة، ما رأيك أن أوزع وقتي على مدار اليوم؟" بهذا الأسلوب اللطيف، قد تجدين أنها تتفهمك أكثر.

2. حاولي تقديم حلول ترضي الطرفين، على سبيل المثال:
• الاتفاق على الذهاب إلى المركز في أوقات أقل حرارة (إن أمكن).
• الحفظ في المنزل بمعدل معين مع مشاركة والدتك في متابعة تقدمك.
• إذا كان المركز قريباً، يمكنك اقتراح الذهاب لفترات أقصر.

3. كما ذكرتِ، والدتك تمر بضغوط شديدة، حاولي أن تقدمي لها الدعم العاطفي، حتى لو عبر كلمات بسيطة مثل: "أمي، أعلم أنك تتحملين الكثير من أجلنا، وأقدّر كل ما تفعلينه." أحياناً مجرد التعبير عن التقدير والامتنان يمكن أن يخفف من غضبها أو إحساسها بالإحباط.

4. الدعاء من أقوى الوسائل التي تعينك على بر والدتك وعلى حل مشكلاتك، كما أن دعاءها لك وسيلة مفيدة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده" (رواه الترمذي) فأكثري من الدعاء بأن يلين الله قلب والدتك ويعينك على برها، وأن ييسر لك حفظ القرآن الكريم بالطريقة التي تناسبك.

رابعاً: نصائح لتقوية الصبر والرضا:
1. بر الوالدين من أعظم القربات إلى الله، وقد يكون صبرك على والدتك سبباً في رفع درجاتك عند الله، يقول الله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (الإسراء: 23).

2. إذا كان هناك شخص قريب من والدتك (مثل خالتك أو عمتك أو إمام المسجد)، يمكنك أن تطلبي منهم التدخل بلطف لشرح وجهة نظرك لوالدتك دون أن يسبب ذلك إحراجاً لها.

3. إذا كنت ستستمرين في الذهاب إلى المركز، حاولي أن تضعي خطة لاستغلال الوقت الآخر في المنزل للحفظ والمراجعة بطريقة مريحة.

4. يمكنك أن تذكري لوالدتك أن العلماء لطالما أوصوا بالرفق في العبادات. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ" (رواه البخاري) هذا يعني أن الإسلام يدعو للتيسير في كل الأمور، بما في ذلك العبادات.

قال الإمام الشافعي رحمه الله:
أطع الإله كما أمر** واصبر على ما قد قدر
وادعُ الإله بأنه** يُدني لك الفرج القريب

تذكري دائماً أن الحياة مليئة بالتحديات، لكنها أيضاً مليئة بالفرص للنمو الإيماني والعاطفي، تعاملك بحكمة مع والدتك هو فرصة لزيادة قربك من الله وزيادة برك بها.

أخيراً: أنت لست عاقة، بل إن قلبك المليء بالحب والحرص على إرضاء والدتك يدل على برك بها، لكن من المهم أن توازني بين رغبتك في إرضائها وبين قدرتك على تحمل الظروف.

أسأل الله أن ينير بصيرتك ويوفقك لما فيه الخير لك ولها، وأن يجعل القرآن نوراً في حياتك، وأن يرزقك بر والدتك على الوجه الذي يرضيه.

وفقك الله وسدد خطاك، وجعل لك من كل ضيق مخرجاً.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً