الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حيرة في الزواج ما بين طلب الكمال وخوف الفشل

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا شاب في نهاية عامي السادس والعشرين، متوسط الحال ماديًا، ولدي وظيفة في تخصصي، وأطمح للتطور في مجالي المهني والمادي، وفي حياتي عمومًا، لدي رغبة في الزواج، ونيل ما يلحقه من الاستقرار النفسي، إلا أنه يوجد لدي بعض الإشكالات النفسية التي سأسردها عليكم.

أولها: هاجس يلح علي أنه: "لا زال الوقت مبكرًا، انتظر سنةً أخرى، أو سنتين، لتحسن وضعك المهني، وتتطور أكثر، وأن الارتباط في الوقت الحالي قد يعوقني".

ثانيًا: لدي مشكلة متعلقة بالمثالية الزائدة في حياتي، انعكست هذه المشكلة على موضوع الزواج؛ حيث أصبحت أقارن بين من يتم ترشيحهم لي من قبل الأهل والأصدقاء، من بينهم إحدى قريباتي التي تصغرني بسبع سنوات، ومقبولة الشكل والخلق، وهذه أفضل من حيث الجمال، وتلك أفضل من حيث الثقافة والنضج العقلي والفكري، وهذه لديها ميزات أخرى لا توجد في غيرها، وأصبحت أرغب في واحدة تمتلك هذه الصفات مجتمعةً، وهذا مما يستحيل، أو يندر.

أحيانًا تكون أولويتي هي الدين، وأحيانًا الجمال، وأحيانًا العقل، وأحيانًا أخرى تكون ميزةً أخرى مختلفةً، ويتولد لدي خوف من أن أرتبط بفتاة لا يتوفر فيها ما يعفني نفسيًا وماديًا، وأقع في دوامة المقارنات.

لقد تحول هذا الخوف إلى وسواس داخلي، شكّل حائط صد نفسي، تجاه الإقدام على الخطوة، ولو على سبيل التجربة، وأصبحت أختلق المبررات لتأجيل الأمر.

ومع إلحاح الأهل عليّ لأخذ الخطوة، والحاجة الداخلية لدي لهذا الأمر، ومشاهدتي لأقراني من حولي يتزوجون الواحد تلو الآخر، أصبحت أنام وأستيقظ وأنا أفكر في الأمر، ولكن تمنعني مخاوفي من الإقدام، وأصبحت أبحث في كل الوجوه عن ضالتي.

أعلم أن لكل شخص مميزاته وعيوبه، حتى أنا، غير أن هذا الخوف لا ينصرف عني، وأصبح التفكير المفرط ملازمًا لي، ويصعب علي حياتي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبيدة حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أتفهم ما تمرّ به -أخي الكريم- من قلقٍ وحيرةٍ بين رغبتك في الزواج وما فيه من استقرارٍ وسكينة، وبين وساوس التردّد والمقارنات التي تُثقلك، وتمنعك من الإقدام، واللهَ أسأله سبحانه أن يلهمك رشدك، ويختار لك ما فيه خيري الدنيا والآخرة.

أخي الكريم: الزواج سنّة من سنن المرسلين، وهو من أعظم أسباب عون العبد على دينه ودنياه، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، وقد بشّر النبي ﷺ الشباب بقوله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج» (متفق عليه)، فالأصل أن الزواج لا يُعطِّل السعي المهني، ولا يوقف الطموح، بل كثيرًا ما يكون سببًا في بركة الرزق، وتوازن النفس، قال ﷺ: «ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم، وذكر منهم: الناكح يريد العفاف» (رواه الترمذي).

ثم اعلم أخي: أنَّ هاجس "انتظر حتى تتحسن ظروفك" هاجس مألوف عند الشباب، لكنه في الحقيقة لا ينتهي؛ فالمستقبل دائمًا يحمل طموحاتٍ أكبر، والإنسان دائم التطلُّع، وكثير الآمال، ولو أخّرت الزواج حتى تبلغ الاستقرار الكامل فلن تُقدِم عليه أصلًا، وإنما الاستقرار يُبنى بالتدريج، والزواج قد يكون جزءًا من بنائه، لا عائقًا له.

ولعلَّ المثالية الزائدة التي عندك انعكست على موضوع الزواج، وجعلتك تبحث عن "زوجة كاملة" لا وجود لها -على وجه الحقيقة-؛ إذ طبِع الإنسان على النقص، ولا كامل إلا الله تعالى، وأرى أنَّ في هذه المثالية مدخلًا من مداخل الشيطان عليك، لصرفك عن الخير المقرون بالزواج.

ولقد وضع النبي ﷺ ميزانًا واقعيًا للزواج، فقال: «تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (متفق عليه)، فالدين أساسٌ، وما عداه من الصفات يُنظر إليه باعتباره مكمِّلًا لا أصلًا، والجمال، والكفاءة، والعقل، لا بد أن تتفاوت، لكنَّ المهم أن تجد من ترتاح لها نفسك، وتغلب فيها صفات العفة والدين.

إنَّ ما تعيشه الآن -أخي الكريم- من وسواس المقارنات هو صورة من التفكير المفرط، والمبالغ فيه، ولو استسلمت له فسيُعطّلك سنواتٍ أخرى، والعلاج العملي يبدأ بخطوات، أقترح عليك بعضًا منها:

1. تحديد الأولويات: بأن تجعل الدين والخلق معيارك الأول، ثم انظر بعد ذلك إلى ما يُرِيح قلبك من جمالٍ، أو ثقافةٍ، أو توافقٍ، ولا تشغل نفسك بجمع الكمالات كلها في واحدة، واستعن في ذلك بمن تثقُ في رأيها من أقاربك، سواء كانت الوالدة، أو إحدى أخواتك، فإنَّ للنساء تقييمًا يختلف عن تقييمنا نحن معاشر الرجال.

2. الخطبة الواقعية: لا يكفي أن تسمع عن الفتيات، أو تراهنَّ من بعيد، بل قف وقفةً شرعيةً صحيحةً: رؤيةً شرعيةً، مع جلسة نقاش، ثم استخارة، وستكتشف أن القلق يقلّ كثيرًا عند التعامل العملي، بدل العيش في الخيال الذي فرضه عليك التفكير والوساوس.

3. تجنب المقارنات المستمرة: فقط قارن بين مَن هنَّ مطروحات لك واقعيًا، لا بين المثاليات التي في ذهنك، والتي ربّما نشأت من وسائل التواصل، أو السماع من الأقران، أو غير ذلك، واعلم أن القناعة تنشأ مع العِشرة، لا قبلها.

4. الاستخارة والاستشارة: صلِّ صلاة الاستخارة بصدقٍ، واستشِر مَن تثق بدينهم وعقلهم، ثم امضِ بعد ذلك، ولا تلتفت لكثرة التردد، فقد قال ﷺ: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار» (رواه الطبراني).

5. التدرج في القرار: لا تُلزم نفسك من البداية بأنَّ الاختيار لا رجعة فيه؛ فالخطبة مرحلة اختبارٍ، إن وجدت أن الأمر لا يناسبك تنصرف بسلامٍ، فهذا يقلل من خوفك، ويُخفف من الحاجز النفسي، لكن شريطة ألا تجعل فكرة الانسحاب وعدم التوافق ترافقك من بداية الخطبة، مراعيًا في ذلك حرمات المسلمين.

لا تنسَ -أخي الكريم- أنَّ الزواج ليس مشروعًا فرديًا فقط، بل هو أيضًا عبادة، ومسؤولية اجتماعية، وقد يكون سببًا في علاج وساوسك؛ إذ سيشغلك عن التفكير المفرط، ويمنحك سكنًا نفسيًا،.

وخلاصة القول: ألا تنتظر حتى تبلغ المثالية المهنية، أو النفسية، بل أَقْدِم متوكلًا على الله تعالى، مستعينًا به سبحانه، فإنه الهادي للصواب، واجعل معيارك الأول الدين والخلق، ثم قدّم ما ترتاح له نفسك من صفات أخرى، وقاوم وسواس المقارنات بخطوات عملية: رؤية شرعية، استخارة، استشارة، قرار، وتذكّر أن الكمال غير موجودٍ، لكن الله تعالى يبارك لك في الزوجة الصالحة التي تعينك على طاعته، وتكمل نقصك.

أسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويعجّل لك بالزوجة الصالحة التي تكون لك سترًا وعونًا، ويجعل زواجك مفتاح بركة في دينك ودنياك، إنه جوادٌ كريمٌ.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً