الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القلق والخوف من الله وحسن الظن به، كيف أجمع بينهما؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أرجو الإجابة بشكل عاجل.

قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، كيف نوفق بين هذه الآية وحديث: «أَنَا عِنْدَ ‌ظَنِّ ‌عَبْدِي ‌بِي» (رواه البخاري ومسلم)، وسمعت شيخًا يقول إن الآية للكفار، والحديث للمسلمين؟

وأنا للأسف عند سماعي مثل هذه الآيات الكريمة أو الأحاديث المماثلة، أو أحوال بعض السلف، مثل -محمد بن المنكدر- تجاهها؛ يصيبني الإحباط والقلق والفتور في العبادات، وأخاف أن أتفاجأ بأشياء يوم القيامة لم تخطر على بالي، وأنني سوف أعذب بها، والله تعالى يقول: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا ‌لَأَتَيْتُكَ ‌بِقُرَابِهَا ‌مَغْفِرَةً» (رواه أحمد والترمذي) وإذا كان هذا وسواسًا، كيف أتخلص منه؟

المعذرة على الإطالة، وأرجو أن تكون الإجابة على كل شيء، وألَّا تحيلوني إلى فتاوى سابقة، جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبدالرحمن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك ولدنا الحبيب في استشارات إسلام ويب، نشكر لك تواصلك بالموقع، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك حُسن الظن به -سبحانه وتعالى-، وأن يجعل عواقبنا كلها إلى خير.

نحن نُكبر فيك -أيها الحبيب- خوفك الشديد من الله -سبحانه وتعالى-، وتعظيمك للوقوف بين يديه، وهذا أمر مطلوب من المؤمن، بشرط ألّا يزيد عن الحد المطلوب؛ فيتحول إلى يأس من رحمة الله تعالى، وقَيد عن السير الحثيث إلى الله جل شأنه، والمسارعة في طاعته ورضوانه حُبًا له، وانتظارًا للخير منه.

فالخوف مطلوب ليمشي العبد إلى الله ولا ينحرف عن الطريق، وهو بهذا القدر مطلوب لكل واحد منَّا، وكلما عظم علم الإنسان بالله تعالى وبحقه عليه، كلما زاد خوفه من الله تعالى، ولكن مع هذا الخوف لا بد من الطمع في رحمة الله، وانتظار الفضل من الله تعالى؛ فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، ولا ينجون من العذاب والنار بمجرد أعمالهم، بل بفضل الله وبرحمته.

وهذه بشرى عظيمة للإنسان المؤمن الذي هو محلٌّ لرحمة الله، فالله تعالى رحيم بالمؤمنين، كما أخبر في كتابه الكريم: {وَكانَ ‌بِالْمُؤْمِنِينَ ‌رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب:43-44]، {وَالْمَلائِكَةُ ‌يَدْخُلُونَ ‌عَلَيْهِمْ ‌مِنْ كُلِّ بابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24]، فتبشرهم الملائكة، وتُسلِّم عليهم وتخبرهم بأنهم في أمان.

ومن البشريات التي لا ينبغي إهمالها والالتفات إلى غيرها من الآيات المتشابهات التي يتبعها من في قلوبهم زيغ، والذين يتخذون ما تشابه من القرآن دليلاً لهم، قول الله تعالى: ‌{أَلا ‌إِنَّ ‌أَوْلِياءَ ‌اللَّهِ ‌لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] وكذلك قوله تعالى: ‌{لِلَّذِينَ ‌أَحْسَنُوا ‌الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [يونس: 26]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ‌تَتَنَزَّلُ ‌عَلَيْهِمُ ‌الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.

فأعظم الأعطيات وأكبر النعم التي أنعم الله بها علينا، نعمة الإيمان -أيها الحبيب-، وهذه النعمة هي التي نرجو من ورائها كل خير من الله تعالى، ونأمل كل فضلٍ وإحسانٍ منه سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * وَنَزَعْنا ‌مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ} [الأعراف:42-43].

فاحذر كل الحذر من أن يستدرجك الشيطان ليُوقعك في آفة ومعصية اليأس من رحمة الله، والقنوط من فضل الله؛ فإنه لا ييأس من رحمة الله إلَّا القوم الكافرون، كما أخبرنا الله في كتابه الكريم.

أمّا المؤمنون فإنهم يجتهدون في الأعمال الصالحة بقدر وسعهم وطاقتهم، يُؤدُّون ما فرض الله، ويجتنبون ما حرّم الله، ثم هم بعد ذلك يرجون رحمة الله، ويطمعون في فضل الله، ويعلمون أن الأمر كله بيد الله، وأن الفضل منه أولًا وآخرًا، فهو الذي هدانا للإيمان، وهو الذي يهدينا للأعمال الصالحة، وهو الذي بفضله وكرمه يتقبلها مِنَّا، وهو الذي بكرمه وجوده يثيبنا عليها، وهو الذي برحمته وفضله يُدخلنا الجنة ويجيرنا من النار.

فالزم هذا الطريق؛ فإنه طريق سلف هذه الأمة، وهو المنهج النبوي الذي دلّنا عليه كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله الكريم ﷺ؛ فالخوف والرجاء للإنسان المؤمن بمثابة الجناحين للطائر، فكما لا يطير الطائر بجناح واحد، كذلك لا يستقيم سير الإنسان المؤمن إلى الله والدار الآخرة بأحد الجانبين دون الآخر، فلا بد له من أن يخاف خوفًا يدفعه إلى العمل وتجويده وتحسينه، ويرجو فضل الله تعالى رجاءً يُنشّطه ويُقوّيه ويُشجّعه على الاستزادة من العمل الصالح، فإذا جاء وقت الضعف والرحيل من هذه الدنيا، فإنه يُطلب منه حينها أن يُغلّب جانب الرجاء والطمع في فضل الله تعالى.

والآية التي تفضلت بذكرها هي في الأساس في سياق الكلام مع الكفار، ولذلك هي فيهم في الأساس، ولكن العلماء حذَّروا من فَسَد باطنه، كما قال سفيان الثوري: "ويلٌ للمرائين من هذه الآية"، فالذين يُخادعون الله تعالى ويعملون شيئًا بالظاهر ويُبطنون خلافه؛ فإنهم على خطر شديد، متوعدون بهذه الآية.

أمَّا المؤمن الذي يعمل عمله لله تعالى؛ فإنه وإن وقع في بعض الذنوب والسيئات، وسترها الله تعالى عليه في الدنيا، فإنه مبشَّر أيضًا بأن يستره الله تعالى في الآخرة، وقد جاء في الصحيحين (صحيحي البخاري ومسلم) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَي رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ اللهُ لَهُ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» فهذا الحديث فيه بشارة عظيمة للإنسان المؤمن، أنه إذا ستره الله في الدنيا فإنه سيستره في الدار الآخرة.

وصيتنا لك -أيها الحبيب- أن تتفقه في دينك، وأن تتلقى العلم عن العلماء المعروفين بالعلم والتثبت فيه، من غير غلو ولا إفراط، كالعلاّمة ابن عثيمين ونحوه من أهل العلم الذين بُثّ علمهم وانتشر وسهل الوصول إليه، وهذا الموقع المبارك، -موقعنا إسلام ويب- فيه الكثير من الخير.

نسأل الله تعالى أن يُوفقك لكل خير.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً