الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في اليمين الغموس

السؤال

حلفت يمين غموس ولكن رددت المال لأصحابه. فما الحكم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة عمدا، وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ومِنْ ثَمَّ في النار، والإتيان باليمين الغموس حرام، ومن الكبائر؛ لما فيه من الجرأة العظيمة على الله.

قال ابن حجر الهيتمي في كتابه: الزواجر عن اقتراف الكبائر: كتاب الأيمان : الكبيرة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة بعد الأربعمائة : اليمين الغموس واليمين الكاذبة.. انتهى

وهذه اليمين الكاذبة ثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في ذمها وبيان أنها من الكبائر والترهيب من الإقدام عليها، فعن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {آل عمران:77} فَجَاءَ الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَقَالَ لِي: شُهُودَكَ. قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ. قَالَ: فَيَمِينُهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. رواه البخاري ومسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: وَلِهَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى:إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ أَنْ يَعْقِدَ بِاَللَّهِ مَا لَيْسَ مُنْعَقِدًا بِهِ فَقَدْ نَقَصَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ أَوْ تَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ. انتهـى.

وهذه اليمين الغموس لا كفارة فيها عند جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة سوى التوبة، وردّ الحقوق والمظالم لأهلها.

فأما الأحناف فقد قال الكاساني في بدائع الصنائع: فَصْلٌ: وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَمِينِ، أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ. انتهى.

وقال السرخسي في المبسوط: وَاَلَّتِي لَا تُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ, وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ كَاذِبَةً يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ.

وأما المالكية ففي التهذيب في اختصار المدونة لأبي سعيد خلف بن أبي القاسم القيرواني البراذعي قال: قال مالك رحمه الله: والأيمان بالله أربعة: يمين غموس، ولغو يمين، فلا كفارة في هذين، ويمين الرجل والله لأفعلن، ووالله لا فعلت: ففي هذين كفارة،فإن رأى الحنث أفضل أحنث نفسه. والغموس: الحلف على تعمد الكذب، أو على غير يقين، وهي أعظم من أن تكفّر. انتهـى.

وقال ابن عبد البر في التمهيد: لا كفارة فيها لعظم إثمها.

وكذا في الشرح الكبير للدردير: ولهم بعض التفصيل بناء على قول الإمام مالك السابق في تعريف اليمين الغموس. وهو باختصار – كما في شرح مختصر خليل للخرشي: قَوْلُهُ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا أَيْ إنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمَاضِي، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَقْبَلِ أَوْ بِالْحَالِ فَإِنَّهَا تُكَفَّرُ. انتهى.

وأما الحنابلة ففي المغني لابن قدامة: مسألة : قال : ومن حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة.هذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن والأوزاعي والثوري والليث وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي من أهل الكوفة. وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم. قال ابن مسعود: كنا نعد من اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس، وعن سعيد بن المسيب قال: هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر. انتهى.

وذهب الحنابلة في رواية كما في مجموع الفتاوى لابن تيمية والشافعية كما في الحاوي الكبير للماوردي، وأسنى المطالب، وتحفة المحتاج: إلى وجوب الكفارة فيها .

و الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء فهي أعظم من أن تكفر؛ وإنما تمحى بالتوبة الصحيحة، وما دمت قد رددت المال لأصحابه كما ذكرت، فعليك أن تستغفر وتتوب إلى الله، وتكثر من العمل الصالح؛ لعل الله أن يتوب عليك، وإن أردت إخراج الكفارة عن يمينك من باب الاحتياط فلا بأس، وهو عمل صالح لن يضيع، ونسأل الله أن يوفقك للتوبة وعدم العود إلى مثل هذه الأفعال الموبقة.

فتاوى ذات صلة:

1- ضابط اليمين اللغو، رقم الفتوى: 6644.

2- الحلف كاذبا يمين غموس كفارتها التوبة النصوح، رقم الفتوى: 29633.

3- الفرق بين الحلف وعدم تنفيذه..وأنواع اليمين، رقم الفتوى: 20864.

4- اليمين الغموس لا كفارة فيها، رقم الفتوى: 33977.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني