الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من الوعيد بالعذاب والعقاب في القرآن الكريم

السؤال

ما هو تفسير ما ذكر القرآن بأن غالبية الآيات تتحدث عن العقاب والعذاب لدرجة أن بعض الناس بدأت ترى وتفكر أن ما كتب ليس بصحيح لأن الله ليس بالخالق الشرير وهو لا يريد ظلم وعقاب الناس لأنه قادر على جعلهم يتبعونه إذا أراد وإذا كان ذلك صحيحا فهذا يجعلهم يتخيلونه بوجه شرير خلق الناس فقط ليعذبهم ويضعهم في المعاصي والمهالك ولم يمنعهم من الغلط لأنه قادر على منعهم من الغلط وبذلك فهو يريد فقط عقاب البشر وتعذيبهم... باختصار بعض الناس يشككون بأن كل ما ذكر هو فقط تخويف البشرية وجعلهم يعيشون بحالة رعب وترقب دائم، وعندما أجبتهم بأنها حكمة الله في العقاب والغفران ولا أحد يعرف إذا كان سيغفر له أو يعاقب سواء كان مسلما أو كافرا كان الجواب بأن الله الذي خلق الكون ونحن غبار هذا الكون لن يفعل هذا بالبشر لأنه لم يخلقنا ليتسلى بنا وقت الفراغ، بل هناك إحدى إجابتين أو هو خلق ليعاقب فقط أو ليس لهذا الكلام أساس من الصحة سوى تاريخ تناقله البشر، سؤالي هو أريد إثباتا علميا ودينيا لهذه الاستفسارات؟ وشكراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2-3}، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179}، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}، وقد سبق الكلام عن الحكمة من خلق العباد مع غنى الله عنهم، ولماذا لم يخلقوا كالملائكة معصومين، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5492، 114255، 44950، 113166، 69481، 33718.

وبناء على نتيجة هذا الامتحان تكون عاقبة الإنسان من النعيم أو الجحيم، والإنسان ليس بمخير بإطلاق ولا مسيراً بإطلاق، فهو ميسر لما خلق له ففعله وإن كان بقدر الله تعالى إلا أن له فيه اختياراً واكتساباً، وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26413، 35375، 95359.

وأما كثرة ورود ذكر العذاب والعقاب والنار في القرآن، فهذا من رحمة الله بعباده ومعونته لهم على تحقيق الاستقامة، حتى يكون العبد على بينة من أمره، وعلم بعاقبته التي سيلقاها إن هو عصى الله تعالى، قال عز وجل: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ {الزمر:16}، قال ابن كثير: أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم، وقوله: يا عباد فاتقون. أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. انتهى.

وقال السعدي: (ذلك) الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار سوط يسوق الله به عباده إلى رحمته (يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون)، أي جعل ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى التقوى وزاجر عما يوجب العذاب، فسبحان من رحم عباده في كل شيء وسهل لهم الطرق الموصلة إليه وحثهم على سلوكها ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس وتطمئن له القلوب وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير وذكر لهم الأسباب الزاجرة عن تركه. انتهى.. وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30}، فبين أن تحذيرهم لهم من العقاب دليل على رأفته بهم، وقد سبق أن بينا أن الخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وذلك في الفتوى رقم: 18074.

ثم يجب أن ننتبه إلى أن كثرة ذكر النار وما فيها من أنواع العذاب والعقاب قرين لكثرة ذكر أنواع النعيم المقيم الذي ينتظر المتقين في الجنة، فلا تكاد تجد ترهيباً بذكر النار إلا قريناً للترغيب بذكر الجنة، وبهذا يمتزج الخوف بالرجاء في توازن مثمر في قلب العبد، لا سيما وهو يعلم أن رحمة الله تعالى تغلب غضبه، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 74460.

وقد قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30}، قال السعدي: أعاد الله تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة، لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب. انتهى... وكثيراً ما يقترن بالخوف والرجاء أمر ثالث وهو التذكير بعظمة الله تعالى ونعمه المتكاثرة على عباده، مما يثمر محبة الله تعالى وبهذا تتحقق عبودية الله كما قال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {غافر:3}، وقد سبق أن بينا أن عبادة الله لا تتم إلا بالحب والخوف والرجاء، وذلك في الفتوى رقم: 65393.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني