الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حد الضرورة التي تبيح للمرء التعامل بالربا

السؤال

عمري 34 سنة، عاطل عن العمل، وشهادتي العلمية في سوق الشغل ضئيلة القيمة، فهي أدنى مرتبة في سلم الشهادات، وعندنا مشكلة بطالة في بلادنا تطال أصحاب الشهادات الكبرى، فكيف بأصحاب الشهادات الصغرى!؟
وعمري وصل إلى السن القانونية القصوى للعمل في الوظيفة العمومية؛ مما يعني أنني قد خسرت كل حظ في هذا القطاع، وليس لي مال لأفتح به تجارة، ومن ثم؛ فلا أمل لي في الزواج، وفتح بيت لأعيش حياتي مثل كل الناس، والمستقبل يبدو حالكًا أمامي، وأبي لن يعيش العمر كله ليستمر في الصرف علي، والسؤال هو:
1ـ لو وجدت وظيفة في بنك ربوي، وطبيعة العمل فيها إعداد وثائق الربا، فهل تجدون لي رخصة لأقبل بهذا العمل؟
2ـ عندنا مؤسسة للإيجار المالي، ولكن الصيغة التي تتعامل بها تبدو ـ حسب فتاوى الشيوخ ـ ربوية، فهل تجدون لي رخصة في شراء سيارة أجرة عبر هذه المؤسسة؛ لأسترزق منها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:

فالحرام لا يجوز ارتكابه إلا للمضطر، قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119}.

وتعرفّ الضرورة بأنها: بلوغ المكلف حدًّا إن لم يتناول الحرام هلك، أو قارب على الهلاك.

قال بعض أهل العلم مبينًا حد الضرورة: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر، أو المشقة الشديدة، بحيث يخاف حدوث ضرر، أو أذى بالنفس، أو بالعضو- أي: عضو من أعضاء النفس-، أو بالعرض، أو بالعقل، أو بالمال، وتوابعها، ويتعين، أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته؛ دفعًا للضرر عنه في غالب ظنه، ضمن قيود الشرع. انتهى من نظرية الضرورة الشرعية.

وقال الشيخ المودودي: لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا، فإن التبذير في مجالس الزواج، ومحافل الأفراح، والعزاء، ليس بضرورة حقيقية، وكذلك شراء السيارة، أو بناء المنزل، ليس بضرورة حقيقية، وكذلك ليس استجماع الكماليات، أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضرورة، فهذه، وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة، والاضطرار، ويستقرض لها المرابون آلافًا من الليرات، لا وزن لها، ولا قيمة في نظر الشريعة، والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون. انتهى.

وعليه؛ فإذا وجدت الضرورة التي تقدم بيانها في حالة السائل، جاز له العمل في البنك الربوي، أو الاقتراض لشراء سيارة عن طريق المؤسسة المذكورة، وإن لم توجد الضرورة الشرعية، فلا يجوز له ذلك.

واعلم أن مع العسر يسرًا، ومع الضيق فرجًا، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وأجلها، فلا تحمل همّ الرزق، وإنما عليك أن تسعى، وتبذل الأسباب المشروعة في ذلك السبيل، وستجدها ـ بإذن الله -: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق:2، 3}.

فاتق الله تعالى في اجتناب ما حرم، وابتغ ما أباح وما أحل، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وعش مطمئن البال، واثقًا من موعود الله، تكن في سعادة، ولو كنت فقيرًا؛ إذ الغنى غنى النفس، روى النسائي، وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم، يا رسول الله، قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم، يا رسول الله، قال: إنما الغنى غنى القلب.

ومن أعظم أسباب اطمئنان الشخص، وراحته النفسية: أن يرضى بما قسم الله تعالى له، وأن لا يستنقص ما هو فيه، وأن يعلم أنه ما من درجة يصل إليها من النقص، أو البلاء، إلا وتحتها درجات، لو استحضرها؛ لحمد الله عز وجل على ما هو فيه، ولعلم أنه في نعمة كبيرة؛ ولهذا يقول الرسول: انْظُرُوا إِلَىَ مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَىَ مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللّه. رواه مسلم، وغيره.

فالإنسان إذا نظر إلى مَن فُضِّل عليه في الدنيا، استصغر ما عنده من نعم الله، وكان سببًا لمقته، وإذا نظر للدون، شكر النعمة، وتواضع، وحمد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني