الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عبارات في الميزان

السؤال

1-ما حكم قول: جَرَّنِي القَدَر؟
2-وما حكم قول ساقني القَدَر؟
3- وهل هذا (1 ، 2) من المجاز العقلي بإسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي؟
4-وهل هناك اختلاف في الحكم بين قول "ساقني قدر الله" و "ساقني القدر"؟
5- وهل كلمة "جرّ" يمكن أن يُفهم منها عدم الاعتراض ومردها لقصد قائلها أم أنها في اللغة لا تسلم من كونها كلمة فيها اعتراض، وبالتالي يُنهى عن استخدامها في هذا الموضع... مع العلم أن "جَرّ" ربما أقوى في دفعه لأمر ما من "ساق"، ومعلوم أن بعض الأمور تجري على الإنسان "بغير اختياره" أو يفعلها بغير اختياره مثل ارتعاش يد المريض بغير اختياره، أو تحصل معه من غير ترتيب مسبق كأن يرى أحداً في الطريق صدفة، ومعلوم أنه عليه أن يكون فيها وفق ما أمره الشرع من شكر وصبر وغيره، وأن الأمور التي تكون صدفة يُقصد بها من غير ترتيب مسبق، وكل ما كان باختياره أو بغير اختياره، أو بغير ترتيب مسبق لا ينفذ إلا بأمر الله وهو مقدر من قبل بحكمته سبحانه، ومعلوم أنه في جميع الأمور مهما كانت العبارة فلا يجب أن يُقصد بها التسخط والاعتراض والعياذ بالله، ولعل في الآية الكريمة توضيحا لما سبق وهي قوله تعالى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. (77: الكهف). يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: ومعنى {يُرِيدُ أن يَنقَضَّ} أشرف على الانقضاض، أي السقوط، أي يكاد يسقط، وذلك بأن مال، فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعلَ شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده، لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه. انتهى.
6-أليس يصح قول انظر كيف فعلت المعاصي بأهلها وليكن لك عبرة، أم أنه غير صحيح، أو أن هذا القول على الرغم من صحته إلا أنه يختلف؟
فما ذُكر عن العبارات المتعلقة بالقدر في بداية الأسئلة فيه إيهام انفصالها عن الـمُقَدِّر، أم أن هذا التعليل غير صحيح؟ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. (رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي). فهل في الحديث ما يمكن الاستشهاد به على ما سبق؟
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم قول: "شاءت قدرة الله" و"شاء القدر" وجوابه منقول في مركز الفتوى هنا في الفتوى رقم (27151) بعنوان: "حكم قول: شاءت قدرة الله وشاء القدر". فقوله "وأما أن نضيف أمراً يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز" انتهى. فعله -والله أعلم- هذا التحديد بقوله "الفعل الاختياري" حدد القول الصحيح أما باقي ما ذكره رحمه الله فإني أستفسر منكم عنه أيضاً بالإضافة للستة أسئلة السابقة فتصبح بهذا سبعة أسئلة. نفع الله بكم وبالشيخ ابن عثيمين وجميع أهل العلم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالقدر في الاستعمال العرفي والشرعي هو قدر الله تعالى، أي ما قدره عز وجل بعلمه ومشيئته وقدرته، مما لا يمكن لأحد أن يخالفه أو يخرج عنه، وقد سئل الإمام أحمد عن القدر؟ فقال: القدر قدرة الرحمن. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 20434، والفتوى رقم: 69937.

قال الدكتور عمر الأشقر في القضاء والقدر: والقدر يطلق ويراد به التقدير السابق لما في علم الله، ويطلق ويراد ما خلقه وأوجده على النحو الذي علمه. انتهى.

فإذا تبين هذا تبين أن عبارة: (ساقني أو جرني القدر) لا تختلف عن قولنا (ساقني قدر الله)، فهي من باب إسناد الفعل إلى المصدر، أو إقامة المضاف مقام المضاف إليه، وهذه من العلاقات التي تصحح التجوز عند أهل اللسان العربي، سواء في المجاز العقلي أو في المجاز المرسل، وعلى ذلك فليس في هذه العبارة محذور -إن شاء الله- من حيث إسناد التقدير إلى غير ذلك، وليس فيها (إيهام انفصال عن المقدر) على حد تعبير السائل.

وأما من حيث دلالتها على شيء من الاعتراض على قدر الله فهذا يختلف باختلاف السياق وقرائن الحال، ودلالة ذلك على مقصود المتكلم، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تذكر غلبة المقادير عند حصول ما لا نختار، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم. وقد بوب عليه النسائي في (اليوم والليلة)، والنووي في (الأذكار) باب: ما يقول إذا غلبه أمر. وعقد عليه ابن القيم في (الوابل الصيب) فصلاً في التسليم للقضاء والقدر بعد بذل الجهد في تعاطي ما أمر به من الأسباب.

ومن المعلوم أن هذا التوجيه النبوي في قول: (قدر الله وما شاء فعل). في مثل هذا المقام ليس اعتراضا على القدر، وإنما المعنى كما قال الشوكاني في (تحفة الذاكرين): أن هذا الأمر جرى بقدر الله أو أن هذا الأمر قدر الله، والقدر عبارة عما قضى الله وحكم به على عباده. انتهى.

وقد جاء هذا التعبير في كلام بعض أهل العلم، كقول ابن كثير في قصة نبي الله نوح: فكان هذا -يعني ابنه- ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان. انتهى.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: لو قدره لك لساقته المقادير إليك. انتهى.

وكذا قال ابن القاسم في حاشيته على كتاب التوحيد.

ومثل هذا التوسع في التعبير لا حرج فيه إن شاء الله، ما دام يدل على معنى صحيح، ولا محذور في ألفاظه، ومن هذا التوسع قولهم: (لسان القدر) كما في قول ابن كثير في (قصص الأنبياء: قال الله تعالى: كأن لم يغنوا فيها أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود)، أي نادي عليهم لسان القدر بهذا. انتهى.

وقول ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): هو سبحانه ما أخرج آدم من الجنة إلا وهو يريد أن يعيده إليها أكمل إعادة، كما قيل على لسان القدر: يا آدم لا تجزع من قولي لك (اخرج منها) فلك خلقتها.. انتهى.

وقوله في (الفوائد): كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك. وفيها أيضاً: فأقاما في الغار ثلاثا ثم خرجا منه ولسان القدر يقول: لتدخلنها دخولا لم يدخله أحد قبلك ولا ينبغي لأحد من بعدك. انتهى.

وأما عبارة: (انظر كيف فعلت المعاصي بأهلها وليكن لك عبرة). فصحيحة بلا شك، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ. {الشورى:30}، وقال سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ. {41-42}، ومن أمثله ذلك ما ذكره الله تعالى عن فرعون وحاله: فَكَذَّبَ وَعَصَى* ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى. {النازعات:21-26}.

وأما كلام الشيخ ابن عثيمين وتفريقه بين عبارة (شاءت قدرة الله) وعبارة (اقتضت حكمة الله) فهو كلام متين، وقد زاده الشيخ وضوحاً في موضع آخر حيث قال في (فتاوى نور على الدرب): عن التعبير بكلمة (شاء القدر): القدر تقدير الله تبارك وتعالى، وهو من صفاته، وصفات الله تعالى لا ينسب إليها شيء من صفات الربوبية كالمشيئة والتدبير وما أشبهها فلا يصح أن يقال دبر القضاء أو دبر القدر على فلان كذا وكذا، لأن المدبر هو الله، والذي يشاء هو الله، والقدر تقدير الله، فإذا كانت صفات الله تعالى لا يجوز أن تعبد، فلا يقول الإنسان: سأعبد عزة الله، سأعبد قدرة الله، فإنه كذلك ليس لها شيء من الربوبية كالتدبير وما أشبه ذلك، فالذي ينبغي بل الذي يجب أن يضيف الإنسان المشيئة إلى الله سبحانه وتعالى، كما أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه، كما أضافها إليه أيضاً نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله صلى الله عليه وسلم للرجل: بل ما شاء الله وحده. انتهى.

وقد صرح بنحو ذلك طائفة من أهل العلم، فقد سئل الشيخ ابن باز عن عبارة: (شاءت الأقدار) أو (شاءت الظروف) فقال: شاء ربنا، شاء الله، شاء الرحمن، شاء الملك العظيم، قل جل وعلا: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ. وقال: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فالمقصود أن المشيئة تنسب إليه سبحانه، لا إلى الظروف ولا إلى الأوقات ولا إلى الأقدار ولا إلى غير هذا من الشروط، لكن تنسب إلى الله وحده سبحانه وتعالى. انتهى.

وقال الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية: المشيئة صفة من صفات الله تعالى والصفة تضاف إلى من يستحقها، ولله تعالى المشيئة الكاملة والقدرة التامة، ومشيئته سبحانه فوق كل مشيئة، وقدرته سبحانه فوق كل قدرة، فيقال: شاء الله سبحانه، ولا يقال: شاءت حكمة الله، ولا يقال: شاءت قدرة الله، ولا: شاء القدر، ولا: شاءت عناية الله، وهكذا من كل ما فيه نسبة الفعل إلى الصفة، وإنما يقال: شاء الله، واقتضت حكمة الله، وعنايته سبحانه، وكل هذه ونحوها من عبارات بعض أهل عصرنا الذين لا يتورعون عن هذه وأمثالها. انتهى.

وسئل الشيخ صالح آل الشيخ عن حكم قول البعض: شاءت الأقدار، ساقته الأقدار، اقتضته حكمة الله... ونحوه هذه العبارات؟ فكان مما أجاب به: قول القائل: شاءت الأقدار وأشباه ذلك غلط، لأن الأقدار ليس لها مشيئة، إنما المشيئة لله عز وجل، هو الذي شاء القدر وشاء القضاء سبحانه وتعالى. وساقته الأقدار هذه محتملة لهذا وهذا وتجنبها أولى.

واقتضت حكمة الله هذه صحيحة لا بأس بها استعملها أهل العلم، لأن الاقتضاء خارج عن الشيء، يعني حكمة الله نشأ عنها شيء هو مقتضاها، فما حصل موافق لحكمة الله. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني