الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرؤية الشرعية في النهي عن بيع الحاضر للبادي

السؤال

في كتاب رياض الصالحين: عن أنس رضي الله عنه قال:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه وأمه. ما معنى الحديث ولماذا النهي والذين يعيشون في المدن كيف يطبق النهي عليهم. هل أهل البلد لا يبيعون لبلد أخرى أو ماذا؟
وأيضا في كتاب رياض الصالحين: نهى صلى الله عليه وسلم عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للأعرابى، وأن يستام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش والتصرية. ما معنى الحديث؟ ولماذا النهي عن بيع المهاجر للأعرابي؟ ولماذا النهي عن أن يستام وما معناها؟ وما هو النجش. وما هي التصرية؟ ولماذا النهي عنهما؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فأما علة النهي عن ذلك، فبيانها أن أنواع البيوع المنهي عنها تختلف بحسب المفاسد التي تترتب عليها وهي كثيرة متعددة، فمنها كما قال الدهلوي في حجة الله البالغة: ما يكون سبباً لسوء انتظام المدينة وإضرار بعضها بعضاً، فيجب إخمالها والصد عنها. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تلقوا الركبان لبيع ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد". أقول: أما تلقي الركبان فهو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهذا مظنة ضرر بالبائع، لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر، وضرر بالعامة لأنه توجد في تلك التجارة حق أهل البلد جميعاً، والمصلحة المدنية تقتضي أن يقدم الأحوج فالأحوج، فإن استووا سوى بينهم أو أقرع، فاستئثار واحد منهم بالتلقي نوع من الظلم، وليس لهم الخيار لأنه لم يفسد عليهم مالهم، وإنما منع ما كانوا يرجونه. اهـ.

وقد جاءت الإشارة إلى هذه العلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يبع حاضر لباد؛ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. رواه مسلم.

وأما مسألة تنزيل أهل المدن المختلفة منزلة أهل البادية في هذا الحديث، فمحل خلاف بين أهل العلم، قال العراقي في (طرح التثريب): فسر أصحابنا بيع الحاضر للبادي بأن يقدم إلى البلد بلدي أو قروي بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلدي فيقول: ضع متاعك عندي لأبيعه على التدريج بأغلى من هذا السعر. فلم يعتدوا الحكم بالبادي وجعلوه منوطا بمن ليس من أهل البلد، سواء كان باديا أو حاضرا؛ لأن المعنى في إضرار أهل البلد يتناول الصورتين وذكر البادي مثال لا قيد. وجعله مالك قيدا فحكى ابن عبد البر أنه قيل له: من أهل البادية ؟ قال: أهل العمود. قيل له: القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها في نواحي المدينة يقدم بعضهم بالسلع فيبيعها لهم أهل المدينة؟ قال: نعم، إنما معنى الحديث أهل العمود. وحكى ابن عبد البر أيضا عن مالك أنه قال: تفسير ذلك أهل البادية وأهل القرى، فأما أهل المدائن من أهل الريف فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه يعرف السوم إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإني لا أحب أن يبيع لهم حاضر. قال: وبه قال ابن حبيب. قال: والبادي الذي لا يبيع لهم الحاضر هم أهل العمود، وأهل البوادي والبراري مثل الأعراب. قال: وجاء النهي في ذلك إرادة أن يصيب الناس ثمرتهم. ثم ذكر حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وقد أخرجه مسلم وغيره. قال: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان سلعتهم وأسواقها فلم يعنوا بهذا الحديث. وحكى ابن عبد البر أيضا عن ابن القاسم أنه قال: ثم قال يعني مالكا بعد ذلك: ولا يبيع مصري لمدني ولا مدني لمصري ولكن يشير عليه، وحكى ابن الحاجب في مختصره الخلاف في ذلك عن مالك فقال: وفي الموطإ يحمله على أهل العمود لجهلهم بالأسعار. وقيل بعمومه؛ لقوله: "ولا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني" اهـ.

ولأجل هذا المعنى قال ابن حجر في (فتح الباري): قوله في هذا المتن: "وأن يبتاع المهاجر للأعرابي" المراد بالمهاجر الحضري، وأطلق عليه ذلك على عرف ذلك الزمان، والمعنى أن الأعرابي إذا جاء السوق ليبتاع شيئا لا يتوكل له الحاضر لئلا يحرم أهل السوق نفعا ورفقا، وإنما له أن ينصحه ويشير عليه. اهـ.

وأما السوم فصورته أن يأخذ ليشتريه فيقول: ردّه لأبيعك خيرًا منه بثمنه أو مثله بأرخص. ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر.

وأما النجش فهو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.

وأما التصرية فهي ترك حَلْبِ الدابة ليجتمع اللبن في ضرعها فيتوهم كثرة لبنها.

ثم ننبه السائل على أن فقه هذه الأحاديث مما اختلف فيه أهل العلم بناء على خلافهم في فهم معناها وعلل أحكامها، فلابد لمن أراد الوقوف على التفصيل من الرجوع لكتب الفقه وكلام الشراح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني