الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهات حول مسائل متعددة وردها

السؤال

أنا شاب جامعي. سأعرض عليكم موضوعي وبالله عليكم اقرؤوه بتمهل وقولوا لي حلا مقنعا مجديا.
أنا أعيش في عذاب مما أشتكي منه ولا أعرف إن كان ما أعانيه ضعف إيمان أو وسوسة من الشيطان. الله أعلم. بالله عليكم استمعوا جيدا لما أقول: أنا أحفظ كتاب ولكن ما أعانيه أفسد عليً فرحتي بذلك، و أنا مبتلى جدا في ناحية العقيدة واليقين بالله وتصديق النبي عليه الصلاة والسلام، مع أني مؤمن بكل ذلك و مؤمن أن الله موجود و أن دين الحق هو الإسلام. ولكن سبحان الله على سبيل المثال يأتيني الشيطان في البداية فيشككني في وجود الله. فأحزن حزنا شديدا. ثم بعد ذلك أضطر أن أقرأ الكتب الدالة على وجود الله إلى أن يقتنع عقلي بذلك. و أتدبر في عظمة الله في آياته و أفضاله علينا في أجسادنا و في أنفسنا و إلى الكون الجميل المنظم، وإلى كل الآيات التي ساقها الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم. و بعد ذلك أفرح كثيرا لأن الله موجود فعلا. و لا ألبث أن يعاود الشيطان عليً تلك الشبهة و أكرر هذا الموضوع مرات ومرات. و بعد أن أنتهي منه إلى أن الله فعلا موجود و عقلي مقتنع بذلك و أنه هو جل وعلا هو الخالق العظيم. يأتيني الشيطان من مدخل آخر و بشبهة جديدة وهي القرآن .أنا اطلعت على شبهات النصارى في هذا الموضوع. فحزنت كثيرا ثم ظللت أبحث عن الحق من خلال الكتب والفيديوهات العلمية الدالة على صدق القرآن، ثم نظرت إلى معجزاته العلمية . فقلت الحمد الله الذي هداني للحق. وأن القرآن فعلا كلام الله و ليس من كلام بشر. والحمد لله خرجت من هذه الشبهة على خير . و لكن الشيطان أيضا يأتيني من خلال شبهة أكبر من ذلك و ي في العقيدة. ألا وهي موضوع عذاب القبر و نعيمه . فيقول لي الشيطان في البداية كيف يتم تعذيب الميت في هذا القبر الضيق فأقول سبجان الله القادر على كل شيء، كما أن قوانين الدنيا ليست لها علاقة بقوانين الآخرة. فهذا حال المقبور . و لكن لا أعلم على ماذا يكون العذاب أو النعيم ؟ أعلى الروح أم الجسد ؟ فقرأت و سمعت أقوال العلماء في ذلك. فيقولون إن العذاب أو النعيم على الاثنين معا . فيقول لي الشيطان إن الجسد يبلى. فعلى ماذا يكون النعيم أو العذاب ؟ ثم بعد ذلك يقول لي إذا ماذا يكون حال من أكله السبع أو من مات غريقا، أو من مات محروقا و ألقي رماده في البحار إلى غير ذلك من غير المقبورين من الأموات .... ثم بعد ذلك من المعلوم أن الميت عندما يدفن يسأله ملكان فيقولا له من ربك وما دينك و من نبيك ؟ و هل هذه الأسئلة تسأل لجميع الأموات من الذين لم تبلغهم الرسالة مثلا أو أهل الفترة و هل يعذبون أم ينعمون ؟ و هل كل الأنبياء أخبروا بعذاب القبر و سؤال الملكين أم لا ؟
هذه مواضيع كثيرة عقلي مبتلى بها ولم أجد عليها إجابة أبدا في أي كتاب أو على الإنترنت ؟
أما بالنسبة للشبهة الأكبر عندي وهي التي أعاني منها إلى الآن . وهي عن صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام . فأنا منذ فترة شاهدت حلقة لساحر تائب وتحدث فيها عن إمكانيات الجن والشياطين الذي يعاونونه، و أخبر عن قدراتهم له في الوحي بحال المرضى الذي يأتون إليه و من معرفة حالهم و أمراضهم الداخلية . فمثلا جاءته امرأة تشتكي من أنها لا تلد فأخبرت الشياطين الساحر بالمشكلة التي تعانيها المريضة داخل جسدها فأعطاها الدواء فأنجبت بإذن الله. الشاهد من هذا أن للشياطين والجان إمكانيات كبيرة تمكنهم من عمل أشياء كثيرة. فعندما شاهدت هذه الحلقة أتاني الشيطان وقال لي إنه من الممكن أن توحي الشياطين للنبي والعياذ بالله من ذلك. ولكني قرأت عن الفرق بين المعجزة والسحر وعرفت الفرق الشاسع بينهما وحمدت الله كثيرا على أن بين لي الحق. و لكن بعد ذلك يحاول الشيطان أن يشككني في النبي من خلال العديد من الشبهات: مثلا .. في سورة التحريم .. يقول أغلب العلماء إن الذي حرمه النبي على نفسه هي زوجته مارية أم ابنه إبراهيم ... فيشككني الشيطان في عدل ورحمة النبي عليه الصلاة والسلام فيقول لي لماذا حرم النبي على نفسه زوجته ابتغاء مرضات أزواجه الأخريات. فما ذنب ماريا في ذلك ؟ و يخيل لي أن هذا ينافي العدل و الرحمة ؟ وهناك الكثير من الشبهات التي يوردها عليً الشيطان .
فلا أدري ماذا أفعل ؟ فبالله عليكم أجيبوني ؟ و خاصة في الجزء الخاص بعذاب القبر وعن سؤال الملكين لأهل الفترة. و هل كل الأموات منذ آدم عليه السلام يسألون نفس الأسئلة ( من ربك و ما دينك و عن شأن النبي المبعوث فيهم ) . وفي الجزء الخاص بالنبي ؟ وما تفسير الحال هذا الذي أنا عليه ... فأنا أنتكس ويتملكني الشيطان بهذه الشبهات تارة و تارة أخرى أشعر أن قلبي مطمئن بالإيمان .. وأنا في هذا النزاع مع نفسي منذ فتر كبيرة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله أن يعافيك من تلك الوساوس، وأن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه.

واعلم أن ما يحصل لك هو وسوسة الشيطان فعليك بالاعراض عنها والاستعاذة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها، فيقول كما في حديث مسلم في خطبة الحاجة: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وقد سأله أبو بكر فقال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله واصفا علاج الوسوسة: وهذا الوسواس يزول بالاستعاذة وانتهاء العبد.... فيثبت على الحق ويدفع ما يعارضه من الوسواس، فيرى الشيطان قوته وثباته على الحق فيندفع عنه، وإلا فمتى رآه قابلا للشكوك والشبهات مستجيبا إلى الوساوس والخطرات أورد عليه من ذلك ما يعجز عن دفعه وصار قلبه موردا لما توحيه شياطين الإنس والجن من زخرف القول وانتقل من ذلك إلى غيره إلى أن يسوقه الشيطان إلى الهلكة. انتهى.
وقد ذكر العلماء أن هناك فرقا بين الشك المخرج من الملة وبين الوسوسة، فالوسوسة: هي ما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه دلت كراهته على صريح الإيمان، وأما الشك: فهو نقيض اليقين، وهو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكذبه ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ولا يكون العبد مؤمنا إذا وقع في مثل هذا الشك، فلا بد لحصول الإيمان أن يكون العبد موقنا يقينا جازما بمدلول شهادة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأن يثق بصحة كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الصحابة والسلف الكرام يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به إذا ثبت عنه ويتهمون عقولهم و أفهامهم إن بدا لهم تعارض ، فقد صدَّق أبو بكر حادثة الإسراء ولم يتردد فيها. فقد روى الحاكم عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وينبغي التنبه إلى أنه قد يطرأ في نفس الإنسان نوع وسوسة يظنه شكا، ولكنه ليس شكا، بل يكون في داخله مصدقا مؤمنا، وعلامة ذلك كراهته لهذه الخواطر وخوفه ونفوره منها، وأما من تابع الوسوسة وتكلم بها ونشرها ووصل معها لدرجة الشك التي تزعزع أركان اليقين وتخالف التوحيد، فذاك الذي يخشى على إيمانه ويخاف عليه من الكفر ومتابعة الشيطان فيما يلقي إليه من وسوسة، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 120582.

وأما عذاب القبر فالظاهر أنه كان معروفا عند الأمم السابقة لما في الصحيحين عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر . فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم أيعذب الناس في قبورهم ؟ فقال رسول الله: عائذا بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله ذات غداة مركبا فخسفت الشمس فرجع ضحى فمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بين ظهراني الحجر ثم قام يصلي وقام الناس وراءه، فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد. ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوع طويلا وهو دون الركوع الأول ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد. وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.اهـ

وأما كونهم يسألون نفس الأسئلة فقد اختلف في سؤال الأمم السابقة.

قال الهيتمي في فتاواه : وجزم الترمذي الحكيم وابن عبد البر أيضاً بأن السؤال من خواص هذه الأمة لحديث مسلم : ( إن هذه الأمة تُبْتلى في قبُورها ) وخالفهما جماعة منهم ابن القيم وقال : ليس في الأحاديث ما ينفي السؤال عمن تقدم من الأمم ، وإنما أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمته بكيفية امتحانهم في القبور ، لا أنه نفى ذلك عن ذلك، وتوقف آخرون وللتوقف وجه لأن قوله : ( إنَّ هذه الأمة ) فيه تخصيص ، فتعدية السؤال لغيرهم تحتاج إلى دليل ، وعلى تسليم اختصاصه بهم ، فهو لزيادة درجاتهم ولخفَّة أهوال المحشر عليهم ففيه رفق بهم ، وأكثر من غيرهم ، لأن المِحَنَ إذا فُرِّقَت هان أمرها ، بخلاف ما إذا توالت فتفريقها لهذه الأمة عند الموت ، وفي القبور ، والمحشر ، دليل ظاهر على تمام عناية ربِّهم بهم أكثر من غيرهم ، وكان اختصاصهم بالسؤال في القبر من التخفيفات التي اختصوا بها عن غيرهم لما تقرَّر فتأمل ذلك. اهـ.

وقال العدوي في حاشيته على شرح الرسالة عند قول المؤلف: (وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون ) : ظاهره شموله لكل مؤمن ولو من الجن وهو كذلك، فقد جزم به السيوطي معللا ذلك بتكليفهم وعموم أدلة السؤال، وجزم ابن عبد البر باختصاص السؤال بهذه الأمة. وقال علي الأجهوري: والصحيح أن السؤال خاص بهذه الأمة دون غيرهم من الأمم، والقول بأنه شامل للأمم السابقة أي قول ابن القيم القائل كل نبي مع أمته كذلك غير صحيح. اهـ

وأما مارية فإنها كانت مملوكة والمملوكة ليس لها حق على سيدها في أمور النكاح، فإن شاء استمتع بها وإن شاء تركها.

وعليك بالإعراض عن هذه الوساوس الشيطانية، واشغل نفسك عنها بذكر الله تعالى والدعاء والتضرع وتلاوة القرآن والاشتغال بما ينفعك في أمر دينك ودنياك، لئلا تفسح المجال للشيطان، وقد سبق لنا التنبيه على سبل التخلص من الوسوسة وعلاجها في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 3086 ، 60628 ، 2081 ، 78372 ، 55678، 102447.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني