الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أحكام من اشترى عقارا فبان أن مساحته أكبر، وهل له الفسخ

السؤال

لدينا محل تجاري وأردنا بيعه بسبب حاجتنا للمال، وجاءنا من يشتري، واتفقنا على الثمن، وقبضنا ربع المبلغ، على أن نؤخر باقي الدفع إلى مدة لم نحددها وحتى نكمل نحن تحضير بعض الوثائق المتعلقة بالملكية وغيرها، وحتى يكمل المشتري بعض معاملاته ويجمع باقي المبلغ، واتفقنا على أجل أولي بحوالي 6 أشهر ـ نسيت كم هو بالضبط ـ قابلة للتمديد إذا لم تجهز وثائق الملكية، وخلال تلك الفترة علمنا أننا بعنا محلنا بثمن بخس، وأنه كان بإمكاننا أن نبيع بأكثر من ذلك بكثير، إضافة إلى أن فترة تحضير الوثائق قد طالت كثيرا عما كنا نتصور، وقد حصل من المشتري أن دفع رشوة لإدارة الملكية ليسرعوا لنا في قضاء المصلحة، وقد امتعضنا من ذلك وحصل بيننا وبين المشتري شيء من الفتور، زد على ذلك أنه عندما جاء خبير التقسيم اكتشف أن المحل يحتوي على غرفة مخفية فيها خمسون مترا مربعا لم نكن نعلمها، وهذا المحل هو جزء من تركة لجدي، وأخذته أمي باتفاق الورثة كلهم دون تقسيم في الوثائق، وعندما علم باقي الورثة ـ وهم يسكنون فوق المحل ـ أن المشتري ذا سمعة سيئة وهو لا يأبه للرشوة ويضع موسيقى صاخبة بالليل والنهار كانوا غير راغبين أن نبيع له منابنا، وبصراحة كانوا متفهمين لحاجتنا للمال فلم يعارضوا البيع وكانو كارهين، فقرر والدي أن يتراجع عن البيع لكل هذه الأسباب مجتمعة، وكنا قد أنفقنا ماقدمه المشتري لنا، فبعنا عقارا آخر حتى نرد له ماله ونفسخ العقد ـ ولم نكن نعلم أن التراجع في البيع في الشرع ليس بهذه البساطة ـ ورفض المشتري وصارت مناوشات وأصبحت العلاقة بيننا علاقة خصام وانتقل الأمر للقضاء الوضعي، ولم تحل الإشكالية إلى الآن، وأريد أن أعرف حكم الله عز وجل في المسألة، وقد سألت بعض أهل العلم فمنهم من قال لي يجوز أن تتراجع ومنهم من قال لي لا يجوز ولكن بدون توضيح أو تفصيل، فبقيت غير مطمئن، فحسب ما ذكرت من الأسباب، هل يجوز أن نتراجع عن البيع؟ وهل يمكن أن نعتبر أن العقد غير صحيح، لأننا لم نحدد مدة معينة لاستكمال سداد الدفع وقد طالت المدة كثيرا كما هو في المذهب المالكي ـ ومذهب بلادنا مالكي ـ وهل يجوز التراجع إذا وجدنا أننا بعنا بثمن رخيص جدا وحسب، أو بسبب أن العقار المتفق عليه صار أكبر مساحة ولم نكن نعلم بداية، أو فقط لأننا كرهنا خلق المشتري ولم نعد نريد البيع له، وهذا ما نشعر به حقيقة، ولست بطرحي هذا أحاول أن أوجه الفتوى لما أريد، بل إننا راضون بحكم الله ـ إن شاء الله ـ حتى ولو حكم القضاء الوضعي لصالحنا ـ وقد احتار هذا القضاء في هذه المسألة فليس فيها نص صريح، بينما في أحكام الشريعة فيها كلام وتفاصيل كثيرة والحمد لله.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فشكر الله حرصك على الحق والرجوع إليه والرضى بحكمه، فهذا شأن المؤمن الصادق، فقد قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {النساء : 65}.

أما ما يتعلق بعقد البيع المذكور، فقد جاء في السؤال: واتفقنا على أجل أولي بحوالي 6 أشهر ـ فأجل سداد الثمن معلوم إذن. وعليه، فإن العقد في ذاته صحيح، وأما ما ذكرت من ظهور الغبن في الثمن، فإن الغبن موجب للخيار إذا تحققت شروطه، وقد سبق أن بينا بالتفصيل ما لأهل العلم في بيع الغبن في الفتوى رقم: 63265، فراجعها.

وأما ما ذكرت من ظهور الزيادة في مساحة هذا العقار خلاف ما تم العقد عليه من المساحة، فهذه الزيادة لكم، وفي تأثيرها على صحة البيع خلاف، قال في المغني: فصل: إذا قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر ففيه روايتان: إحداهما: البيع باطل، لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزيادة، وإنما باع عشرة، ولا المشتري على أخذ البعض، وإنما اشترى الكل، وعليه ضرر في الشركة أيضا، والثانية: البيع صحيح والزيادة للبائع... وهل للبائع خيار الفسخ؟ على وجهين أحدهما: له الفسخ، لأن عليه ضررا في المشاركة، والثاني: لا خيار له، لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن، فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ.

وقال الحجاوي في الإقناع: وإن باعه أرضا أو دارا أو ثوبا على أنه عشرة أذرع فبان أكثر فالبيع صحيح، والزائد للبائع مشاعا، ولكل منهما الفسخ؛ إلا أن المشتري إذا أعطى الزائد مجانا فلا فسخ له. انتهى.

ويقول العلامة ابن عثيمين في فقه هذه المسألة كما في الشرح الممتع: قوله: على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر، فالبيع صحيح، قوله: أو أقل صح أي: وإن بانت أقل فالبيع ـ أيضاً ـ صحيح، لكن إذا بانت أكثر، فالزيادة تكون للبائع، لأنه باعها على صفة معينة، وهي أنها عشرة أذرع فبانت خمسة عشر ذراعاً، فنقول: الزيادة للبائع فخذ من الخمسة عشر ذراعاً عشرة وأعط البائع خمسة، وكذلك إذا بانت أقل بأن باعها على أنها عشرون ذراعاً فبانت خمسة عشر، فالبيع صحيح والنقص على البائع، فيسقط من الثمن بمقدار ما نقص من الأذرع، والذي نقص إذا باعها على أنها عشرون فبانت خمسة عشر هو ربع الثمن، فالزيادة للبائع، والنقص على البائع، قوله: ولمن جهله وفات غرضه الخيار أي: جهل المقدار، وفات غرضه، له الخيار فاشترط المؤلف شرطين في ثبوت الخيار للمغبون، مثال ذلك: اشترى إنسان هذه الأرض على أنها مائة متر، فتبين أنها تسعون متراً، فنقول: البيع صحيح، لأنه وقع على شيء معين معلوم بالمشاهدة والتقدير اختلف، والتقدير يحاسب من عليه النقص بقدره، فإذا كان باعها بمائة ألف فينقص من الثمن عشرة آلاف، لكن إذا قال المشتري: أنا كنت أظن أن هذا التقدير صحيح، وقد خططت بأن أعمرها عمارة على هذه المساحة، والآن لما نقصت لا أريدها، فهل له الخيار؟ الجواب: نعم له الخيار، لأنه فات غرضه، فلما فات غرضه قلنا: لك الخيار، فإن كان المشتري يعلم أنها تسعون متراً فإنه لا خيار له، لأنه دخل على بصيرة، وكان عليه أن يقول للبائع ـ حين قال: إنها مائة متر: إن هذا غلط، بل هي تسعون متراً، إذاً شَرْطُ ملك الفسخ اثنان:

الأول: الجهل.

الثاني: فوات الغرض.

فإذا قال المشتري الذي اشتراها على أنها مائة متر، فبانت تسعون متراً: أنا أسمح بالعشرة، وقال البائع: أنا أريد أن أفسخ لأنه تبين أن التقدير خطأ، فلا يملك البائع الفسخ، لأنه ليس له غرض الآن، لأنه باعها على أنها مائة متر، وتبين أنها أقل وسومح بالناقص، فليس له غرض، إلا أنه أحياناً ربما تكون الأراضي قد زادت في هذه المدة، وأنها تساوي أكثر من مائة ألف، وهي تسعون، فنقول: ليس لك أن تفسخ، لأنه لا ضرر عليك.

مثال آخر: اشتراها على أنها مائة متر فتبين أنها مائة وعشرون، فقال المشتري: أنا أريد أن أفسخ، لأنها تغيرت عما قُدِّرت به، فقال البائع: لك العشرون مجاناً لا تعطني إلا الثمن الذي اتفقنا عليه، فلا خيار للمشتري، لأنه لا ضرر عليه، فإذا قال المشتري: أنا قد قدرت أن أبني بيتاً قدره مائة متر، والآن صارت مائة وعشرين فتزيد عليّ المواد، وقيمة البناء، لأنه يلزم أن أوسع الحجر والغرف، فنقول له: اجعلها فسحة، فإذا قال: حتى لو جعلتها فسحة فيزيد عليَّ الجدار ـ السور ـ نقول: اجعل الزائد مواقف أو شارعاً، إذاً ليس عليه ضرر، والمؤلف اشترط أن يفوت غرضه، وهنا لا يفوت الغرض، ولو تراضيا على النقص أو الزيادة جاز، لأن الحق لهما، فإذا تصالحا على إسقاطه مثل: أن يقول: بعتها على أنها مائة متر فتبين أنها تسعون متراً وتصالحا بحيث قالا: يسقط من الثمن كذا وكذا، واتفقا على ذلك فلا بأس. انتهى.

وتحصّل من هذا أن البيع باطل على إحدى الروايتين عن أحمد، أو صحيح، ولكم الفسخ مطلقا، أو إن فات غرضكم، والذي يظهر أن لكم الفسخ:

1ـ إن أبى المشتري دفع ثمن المساحة الزائدة وأراد أخذها مجانا، لأنه لا حق له في ذلك ولا تجبرون على بذل الزيادة.

2ـ إن ترك الزيادة لكم، وكان لا يمكنكم الانتفاع بها بعد بيع المحل، دفعا للضرر.

أما إن بذل ثمن الزيادة، فليس لكم الفسخ من هذا الوجه، لأنه لم يفت لكم غرض.

وأما ما ذكرت من كراهية الجار لخلق هذا المشتري فلا تأثير له، ولو فرض أن له تأثيرا فقد فات برضاهم به وهم يعلمون حاله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني