الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستشهاد بعقيدة العوام في فهم آيات الصفات

السؤال

ما هو موقف عوام الناس من أحاديث نزول الله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل؟ فكثيرًا ما نستشهد بأننا على عقيدة الفطرة ـ عقيدة عوام الناس ـ كعلوِّ الله سبحانه وتعالى، لكن ماذا عن حديث النزول, وهل عوام الناس يفهمون منه أن الله ينزل إلى داخل السماء الدنيا, أي يقولون بالحلول ـ والعياذ بالله ـ نظرًا لعدم معرفتهم أن القول بحلول الخالق في خلقه كفر، وهدفي من هذا السؤال هو أننا إذا كنا نستشهد بعقيدة عوام الناس في العلو ألا يجب علينا أن نستشهد بفهمهم لأحاديث النزول؟ فإن كان عوام الناس يعتقدون الحلول عند قراءتهم لأحاديث النزول، فهل يصح أن نحتج بعقيدتهم في العلو؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن الخطأ البيِّن نسبة اعتقاد عوام المسلمين للحلول عند سماع أحاديث النزول! بل هذا الاعتقاد الخبيث مما تنفر منه قلوبهم، وتنكره فطرهم، ولا ندري ما الذي استند إليه السائل ليقطع بهذا الحكم! وإنما يقع مثل هذا التصور الخاطئ والفهم المغلوط عند سماع أحاديث النزول الإلهي لمن تلوث قلبه بشبة التشبيه، فلا يجد منها مفرًّا إلا بالتأويل؛ ولهذا يزعم من زعم من المتكلمين أن نصوص الصفات توهم التشبيه ولذلك يجب تأويلها، والإشكال الذي يحوم حوله السائل لا يقتصر على صفة العلو أو النزول، بل يأتي في بقية الصفات - كالرحمة, والمحبة, والرأفة - بل يأتي حتى في ما يثبته العقل من الصفات - كالحياة, والإرادة, والعلم, والقدرة, والسمع, والبصر, والكلام - فإن المخلوقات تتصف بهذه الصفات كلها، فإن أثبتنا هذه الصفات لله تعالى على وجه يختص به, ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منها، فكذلك الحال في سائر الصفات، جاء في مختصر الصواعق المرسلة: إن فررتم خشية التجسيم والتركيب ففروا من سائر الصفات من أولها إلى آخرها لأجل هذا المحذور، فإن ادعيتم أن التجسيم والتركيب يلزم مما فررتم منه دون ما لم تفروا منه، ظهر بطلان دعواكم للعقلاء قاطبة، فإن الصفات أعراض لا تقوم بنفسها, وقيامها بمحلها مستلزم لما تدعون أنه تجسيم وتركيب. اهـ.

وما أصدق ما قاله الإمام الدارمي في نقضه على المريسي، حيث يقول: فهذا الناطق من كتاب الله يستغنى فيه بظاهر التنزيل عن التفسير، وتعرفه العامة والخاصة غير هؤلاء الملحدين في آيات الله الذين غالطوا فيها الضعفاء. اهـ.

وبخصوص صفة النزول ننقل بتصرف واختصار يسير ما نقله الآلوسي في جلاء العينين، وعبارته: لا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلي، كأخبار النزول وغيره؛ لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم مع فصاحته، وسعة علمه وكشفه، لم يقل لنا: إنه تنزل رحمته تعالى، ومن قال: تنزل رحمته، فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية، والحق ذاته مجهولة، فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين، والعرب تفهم نسبة النزول مطلقًا، فلا تقيده بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه ليس كمثله شيء يحصل لها المعنى مطلقًا منزهًا، وربما يقال لك هذا يحيله العقل، فقل: الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول، فإنه حينئذ تمضى عليه سبحانه أحكامها ... وهنا قاعدة جليلة الشأن حاصلها: أن التغاير بين الذوات يستدعي التغاير في نسبه الأوصاف إليها، وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها، عرف سر الآيات والأخبار التى توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة، واطلع على المراد منها، فيسلم من ورطتي التأويل والتشبيه، وعاين الأمر، كما ذكر مع كمال التنزيه. اهـ.

وقد نقل الألوسي ذلك أيضًا في تفسيره روح المعاني في سورة طه عند قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.

وعلى أية حال، فإننا نقرر هنا أن عقيدة العامة التي نحيل عليها ونستند إليها، إنما يراد بها عقيدة أصحاب الفطرة السوية التي لم يصبها زيغ, ولم تتلوث بشبهة، فهذه لا تخالف النصوص الشرعية كما فهمها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم سمعوا نصوص الصفات ـ كتابًا وسنة ـ فعقلوها وأثبتوها دون تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل! قال ابن القيم في بدائع الفوائد: كان معنى هذه النصوص مفهومًا عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها، ولا خاف على نفسه توهم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه، وكذلك الكفار لو كان عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض، واحتجوا بها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولقالوا له: زعمت أن الله تعالى ليس كمثله شيء، ثم تخبر أن له يدًا كأيدينا، وعينًا كأعيننا! ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جليًا لا خفيًا. اهـ.

ومن باب الفائدة ننبه أخيرًا على أن صفات الله تعالى نوعان: عقلية وخبرية، قال الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد في كتاب مصطلحات في كتب العقائد:
ـ الصفات العقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي والدليل العقلي والفطرة السليمة، وهي أغلب صفات الله تعالى، مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها.
ـ الصفات الخبرية: وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني