الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ماتت عن زوج وأم وبنت

السؤال

توفيت والدتي منذ سنة، وقد قامت منذ أكثر من 10 سنين بنقل أملاكها باسمي في الدوائر العقارية، وبعد وفاتها عرفت أنها ليست والدتي الحقيقية وتأكدت من صحة ذلك، مع العلم أنني لا أعرف والدتي الحقيقية ووالدي، وكان سبب وفاتها مرض السرطان, وقبل وفاتها بقليل كانت قد أوصت بحصة زوجها ووالدتها في أحد العقارات، فهل يصح أن يوزع مال اليتيم بعد إعطائه إياه؟ علما بأنني قد قمت بدفع مبلغ من المال لزوج والدتي، والآن أقوم بمساعدة والدتها أيضا بمبلغ بسيط من المال شهريا، فهل تصح الوصية للورثة؟ أخاف أن أتعدى حدود الله عز وجل في ذلك؟ وإذا كان صحيحا فأرجو من حضراتكم أن تعلموني كيف يتم التوزيع على الزوج، والوالدة، والبنت الوحيدة؟ علما بأن المتوفاة كانت قد تبرأت من إعطاء ابنتها شيئا وكانت غاضبة عليها، وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فكتابة الميت أملاكه في حياته وصحته لورثته أو لغيرهم تكون هبة صحيحة إذا حازها من كتبت إليه حيازة حقيقية بحيث يتصرف فيها كيف يشاء، فقد جاء في إعانة الطالبين: والكلام في التبرعات المنجزة في مرض الموت أو المعلقة به، أما ما وقع منه في الصحة فينفذ مطلقا ولا حرمة وإن قصد به حرمان الورثة. انتهى.

وأما إذا كان الأمر مجرد كتابة دون أن يقبض من كتبت باسمه شيئا من هذه الأملاك، فإن هذه الأملاك تكون من ضمن التركة، فقد جاء في الثمر الداني من كتب المالكية: فإن مات الواهب قبل أن تحاز عنه فهي ميراث يرثه الورثة وتبطل لمن جعلت له، إلا أن يكون ذلك في المرض فذلك نافذ من الثلث، لأنه خرج مخرج الوصية، إن كان لغير وارث، لأن الوصية للوارث غير جائزة ـ أي غير نافذة، أي فهي باطلة ـ وإن أجاز الوارث كان ابتداء عطية منه. انتهى.

وجاء في الجوهرة النيرة من كتب الحنفية: فَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ... انتهى.

وفي روضة الطالبين من كتب الشافعية: وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَوَجْهَانِ: وَقِيلَ: قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِجَوَازِهِ، كَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْفَسِخُ، لِأَنَّهُ يَؤولُ إِلَى اللُّزُومِ، كَالْبَيْعِ الْجَائِزِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ فِي الْإِقْبَاضِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَ وَارِثُهُ إِنْ أَقْبَضَهُ الْوَاهِبُ. انتهى.

وفي قواعد ابن رجب من كتب الحنابلة: إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ لُزُومِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ كَالرَّهْنِ، قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَاخْتِيَارِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَقَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْهِبَةِ فِي الصِّحَّةِ. انتهى.
وعليه، فهذه الأملاك التي وهبتها لك هذه المرأة التي كنت تظن أنها أمك تكون هبة صحيحة تنفذ إذا وقعت في حال صحتها، وتسلمتها في حياتها وصار بإمكانك أن تتصرف فيها تصرف المالك بالبيع والشراء ونحو ذلك، وإذا صارت ملكك فلا يصح لهذه المرأة أن توصي بشيء منها إلى أحد، سواء كان زوجها أو أمها أو غيرهما، وأما إن كانت الهبة مجرد كتابة للأملاك باسمك، فإنها لا تصير هبة إذا لم تتسلمها وتتصرف فيها كما تشاء، والغالب على الناس اليوم أنهم يريدون حرمان بعض الورثة أو بعض حقوقهم أو ضمانها لمن يريدون أن يوصوا إليهم، فيلجؤون إلى كتابتها لمن يريدون تمليكه إياها بعد موتهم، فهذه لا تعتبر هبة صحيحة، وبالتالي فإذا لم تُقبض وتُحز فإنها تبطل وتكون للورثة، فإن أجازها الورثة بعد ذلك للموهوب له كانت ابتداء عطية منهم، وأما إن كانت الهبة وقعت في حالة المرض فإنها تكون وصية، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني: ....عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا تَنْفُذُ، لِأَنَّ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ إجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ لَا تَنْفُذُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ حُكْمَ الْهِبَاتِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْوَاهِبُ، حُكْمُ الْوَصَايَا، هَذَا مَذْهَبُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْكُوفِيِّ. انتهى.

وحيث إنك غير وارث لهذه المرأة فتصح لك الوصية بشرط ألا تزيد عن الثلث، وباقي المال من عقارات وغيرها إذا لم يجزه الورثة لك فإنه يقسم على الورثة كالزوج والبنت والأم في سؤالك، ولا تحرم البنت من الميراث ولو أوصت بذلك أمها، والوصية للزوج والأم لا تنفذ إلا برضا الورثة، لأنهما وارثان إلا إن أوصت بإعطائهما نصيبهما من الإرث، لأنهما يستحقانها بغير وصية، فقد جاء في فتح المعين: والوصية لكل وارث بقدر حصته ـ كنصف وثلث ـ لغو، لأنه يستحقه بغير وصية، ولا يأثم بذلك. انتهى.

وإن كان من ذكرتهم من الورثة هم جميع ورثة هذه المرأة، ولم يكن لها عاصب ولو بعيدا في النسب، فإن القسمة تكون ـ بعد أن تأخذ أنت ثلث التركة ـ على النحو التالي: الزوج له الربع ـ فرضا ـ لوجود البنت، كما قال الله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ {النساء:12}.

والبنت لها النصف ـ فرضا ـ لانفرادها، كما قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ { النساء :11}. والأم لها السدس ـ فرضا ـ لوجود الفرع الوارث، كما قال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ { النساء :11}. والباقي يرد على البنت والأم، فتقسم التركة على ستة عشر سهما: للزوج ربعها: أربعة أسهم فرضا، وللبنت منها تسعة أسهم فرضا وردا، وللأم منها ثلاثة أسهم فرضا وردا.

ثم إننا ننبه السائل الكريم إلى أن أمر التركات أمر خطير جداً وشائك للغاية وبالتالي فلا يمكن الإكتفاء فيه ولا الإعتماد على مجرد فتوى أعدها صاحبها طبقاً لسؤال ورد عليه، بل لا بد من أن ترفع للمحاكم الشرعية كي تنظر فيها وتحقق فقد يكون هناك وارث لا يطلع عليه إلا بعد البحث، وقد تكون هناك وصايا أو ديون أو حقوق أخرى لا علم للورثة بها، ومن المعروف أنها مقدمة على حق الورثة في المال، فلا ينبغي إذاً قسم التركة دون مراجعة المحاكم الشرعية إذا كانت موجودة، تحقيقاً لمصالح الأحياء والأموات. وللفائدة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 117337.

ولم يظهر لنا مقصودك من قولك: فهل يصح أن يوزع مال اليتيم بعد إعطائه إياه؟ فلعلك توضحه في سؤال آخر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني