الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قراءة الكهان والعرافين للقرآن لا يجعل باطلهم حقا

السؤال

أود أن أسأل حضراتكم عن شخص بعد أن أبين لكم ما يفعل وما يقول، وأرجو من فضيلتكم ذكر الدليل القاطع الذى يقطع النزاع، ويظهر الحق بإذن الله تعالى.
هذا الأخ رجل مصل، وله حظ من القرآن الكريم، وقراءة في بعض الكتب كما يظهر من كلامه ـ والله تعالى أعلم ـ وهو مع هذا يفعل ما يلى:
يأتي إليه بعض الناس الذين سرقت منهم أموالهم يبتغى أن يخبره ذلك الأخ عن السارق الذى سرق منه ذلك المال، فيقوم ذلك الأخ ـ وكما يخبر هو عن نفسه ـ بقراءة آيات من القرآن الكريم، ويدعو ببعض الأدعية، ويؤكد لي أنه لا يقول أية طلاسم، ولا يتمتم بكلام غير مفهوم.
نصح ذلك الأخ وقيل له بأن ما تفعله يسمى في الشرع عرافة، وهى محرمة شرعا، ولكنه ينفى أن يكون ما يفعله من العرافة، ويقول: إنما تساعده ملائكة ممن قال الله عز وجل عنهم: (يعلمون ما تفعلون) فالملائكة التي رأت السارق تخبر هذا الأخ عنه عن طريق إشارة معينة يفهمها عنهم، كما يؤكد أنه يستحيل أن يكون من يخبره بذلك شياطين حيث إنه يقرأ آية الكرسي، ومن قرأ آية الكرسي لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان، كما أنه يقول ـ كما ذكرت ـ أنه لا يتقرب للشياطين بأي شيء إنما فقط يقرأ القرآن الكريم ويدعو.
ويقول هذا الأخ: بأن ما يفعله فيه مصلحة كبيرة حيث يعرف السارق بعينه حتى لا يتهم بالسرقة بريء لا ذنب له، وحتى لا تثار الشكوك من قبل المسروق في أقرب الناس إليه، مع العلم بأنه يأخذ على هذا العمل مالا.
وأشير أخيرا بأنه إن قيل له هذا عمل لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحتج إلى ذلك، أو أنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ويتكلم عن الأولياء وكراماتهم، وأن الله تعالى يفتح على من شاء من خلقه ونحو ذلك.
كيف يمكن نصح مثل هذا الأخ وإرجاعه عن هذا الطريق مع إقامة الحجة عليه؛ بحيث يظهر له الحق جليا واضحا، ولا يتمكن شيطانه بعد الدليل القاطع من إثارة أية شبهة يحاول بها أن يقنعه بأن ما يفعله خير، أو أنها كرامة أو هبة أعطاه الله إياها، أو نحو ذلك من الشبه التي يمكن أن تثار؟ وكيف يمكن أن يرد على الشبه التي أثارها فعلا من أنه يقرأ آية الكرسي فكيف يمكن أن تقربه الشياطين بعد قراءتها؟ إلى غير ذلك من الشبه. أفتونا وانصحونا مأجورين ـ بإذن الله تعالى ـ وجزاكم الله تعالى كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكرته من حال هذا الرجل من الصلاة وقراءة القرآن والكتب، وما يدعيه من قراءته للقرآن والأدعية عندما يريد معرفة مكان المسروق، كل ذلك لا يدل على جواز فعله ولا على صدقه، فإن كثيرا ممن يمتهن مثل هذه الأمور من السحرة والكهنة والمنجمين والعرافين يصلون ويصومون ويتصدقون ويحجون ويقرؤون القرآن لكي يوهموا الناس أنهم على صلاح وهدى، فيمررون سحرهم ودجلهم وادعاءهم علم الغيب، قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ في فتاويه: إن الشياطين وهكذا نوابهم وأولياؤهم من الكهنة والمنجمين والرَّمالين والعرَّافين قد يقرءون القرآن كثيرًا عند العامة، وعند الناس حتى يوهموا أنهم ليسوا أهل شر. انتهى.
وكذلك مما يوقع الريبة فيما يفعله هذا الرجل ادعاؤه أن الملائكة هي التي تخبره عن المسروق بطريقة معينة، وهذا من العجب، فكيف عرف أنهم ملائكة وليسوا شياطين، بل أين الدليل على أن من الملائكة من يخبر الناس بمكان المسروق، وما استدل به على ذلك ليس بصحيح، بل إن قوله تعالى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ {الانفطار:12}، هو وصف للملائكة الحفظة الذين يكتبون أعمال بني آدم، وذلك يقتضي أنهم يعلمون ما يفعله بنو آدم حتى يكتبوه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسيره: وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) يقول: وإن عليكم رُقَباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويُحْصونها عليكم (كِرَامًا كَاتِبِينَ) يقول: كراما على الله كاتبين يكتبون أعمالكم ... وقوله: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) يقول: يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ، يحصون ذلك عليكم. انتهى.
فما يفعله هذا الرجل ينطبق عليه ما ذكره العلماء في بيان العراف، فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم عن الخطابي قوله: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ أَنَّ الْكَاهِنَ إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ، وَالْعَرَّافُ يَتَعَاطَى مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانَ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا فِي حَدِيثِ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: كَانَ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رِئْيًا مِنَ الْجِنِّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي اسْتِدْرَاكَ ذَلِكَ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى عَرَّافًا وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ اسْتَدَلَّ بِهَا كَمَعْرِفَةِ مَنْ سَرَقَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ يُتَّهَمُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا، قَالَ وَالْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يَدَّعُونَهُ، هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَهُوَ نَفِيسٌ. انتهى.
فالأصل أن التوصل إلى معرفة السارق ومكان المسروق ونحو ذلك بمقدماتِ أسبابٍ تختلف من عراف إلى آخر، أن ذلك من العرافة والكهانة المحرمة التي جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. رواه مسلم.

ولا ينبغي الانخداع بقراءة العراف لشيء من القرآن ، فهذه من الحيل التي يلجأ إليها هؤلاء المبطلون.
وكون آية الكرسي تطرد الشياطين، هذا حق لكن لمن قرأها بصدق، قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقِ أَبْطَلَتْهَا. انتهى. واعتبر بحال كثير من الناس ـ إلا من رحم الله ـ فإنهم يقرؤون آية الكرسي دبر الصلوات، ومع ذلك يقترفون الآثام التي توسوس بها الشياطين، بل إن بعض المصلين توسوس لهم الشياطين في صلاتهم فعل المنكرات والفواحش، مع أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فذلك يدل على أن ليس كل من صلى نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، ولا كل من قرأ آية الكرسي طردتْ عنه الشياطين.
وأما قوله: "إن ما يفعله فيه مصلحة كبيرة حيث يعرف السارق بعينه حتى لا يتهم بالسرقة بريء لا ذنب له، وحتى لا تثار الشكوك من قبل المسروق منه في أقرب الناس إليه". فيقال له: إن هذه المصلحة قد بين لنا الشارع الطريقة المثلى في تحصيلها، حيث إنه قد حرم اتهام أحد بالسرقة بمجرد الشك، بل لا بد لحصول العلم بذلك من الرؤية أو السماع المباشريْن، وأن الظن بالناس من غير بينة لا يجوز، فالشارع قد سد هذه الطرق بنصوص واضحة وأحكام بينة، ولم يحوجنا إلى مثل هذه الطرق الخفية، ثم إن هذا القول سيفتح الباب لكل مبطل أن يخترع طرقا شركية وبدعية للوصول إلى هذه المصلحة.
وأما كون هذا الرجل لا يأخذ على إخباره بمكان المسروق مالا فلا يؤثر في الحكم شيئا، لأننا نقول إن العرافة لا تجوز، سواء أخذ العراف عليه مالا أو لم يأخذ.
وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج إلى هذا، ولم ينه عنه، فقد سبق أن ما يفعله من العرافة داخل فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لذلك لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العرافة، ولم يوص بها أحدا من أصحابه الذين هم سادات الأولياء في هذه الأمة بعد نبيها.
فلعل نصيحته بما سبق فيه كفاية ـ إن شاء الله ـ لمن أراد الله هدايته.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني