الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوفيق بين حديث: ألا أنبئكم بخير أعمالكم... وحديث: دلني على عمل يعدل الجهاد...

السؤال

واجهت عقبة في التمييز بين هذين الحديثين:
- عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله تعالى.
- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ فقال: لا أجد. ثم قال: أتستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك؛ فتقوم فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟!
ففي الحديث الأول: ذكْر الله خير من الجهاد، وفي الحديث الثاني: لا شيء يعدل الجهاد.
أفيدونا جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الجهاد هو أفضل الأعمال على الإطلاق عند بعض أهل العلم، وقد ثبت في فضله عدة أدلة، فمنها قوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:95}.

وفي صحيح البخاري: أنه قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. وفي الصحيحين: أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله.

وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أخبركم بخير الناس منزلا؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله -عز وجل- حتى يموت أو يقتل . رواه مالك، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني.

وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم، فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال.

وفي حديث الترمذي: رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد.

وفي حديث الصحيحين: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.

ومنها: الحديث الذي أورده السائل، فهو من أصرح الأدلة في أن الجهاد أفضل الأعمال على الإطلاق.

وذكر ابن قدامة في المغني أن الإمام أحمد -رحمه الله- قال: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه. الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم...
وأما عن التوفيق بين هذا وبين الحديث الوارد في فضل الذكر: فقد قال المناوي في فيض القدير:

هذا محمول على أن الذكر كان أفضل للمخاطبين به، ولو خوطب به شجاع باسل حصل به نفع الإسلام في القتال لقيل له الجهاد، أو الغني الذي ينتفع به الفقراء بماله قيل له الصدقة، والقادر على الحج قيل له الحج، أو من له أصلان قيل له برهما، وبه يحصل التوفيق بين الأخبار... انتهى.

وذهب ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- إلى إبقاء الحديث على إطلاقه، ولكن بشرط كون الذكر باللسان وبالقلب معًا، قال في فتح الباري: وطريق الجمع -والله أعلم-: أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار -مثلًا- من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار -مثلًا-، فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

وقال ابن دقيق العيد: وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في هذا: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد، ومثال ذلك: أن يحمل ما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- من قوله: ألا أخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟. وفسره بذكر الله تعالى على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم، ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له "الجهاد" ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال، ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى، وكان غنيًّا ينتفع بصدقة ماله لقيل له "الصدقة"، وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفًا في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني