الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

صور التسبب في إسقاط الجنين الموجب للضمان

السؤال

أنا شاب عمري ٢٦ سنة. عندما كنت في سن ١٣، وكنت بالغا آنذاك. كانت الوالدة حاملا في الشهر السابع ببنت، وكانت قد جاءت للتو من الفحص الأسبوعي. فاستأذنتها للعب بجهاز الكمبيوتر، فسمحت لي. وكان خلفها كرسي، فأردت أن آخذ الكرسي قبل أن تجلس هي عليه. فقلت لأخي الذي هو أصغر مني، أن يجلبه لي بسرعة قبل أن تجلس أمي عليه. كنت أعلم أن الصدمة قد تقتل الجنين، لكن والله لا أدري كيف فعلت ذلك، ربما لحظة طيش، أو لحظة حماس للعب بالكمبيوتر، أو ربما قصر في التفكير، لكن لم أقصد الأذى أبدا، ولم أرد إلا أن ألعب.
فهل علي كفارة؟ وهل إذا كان علي صيام شهرين. فهل أصومهما ٦٠ يوما، أم أصوم شهرين، كما نصوم رمضان أي حسب الرؤية؟
وهل على الوالدة إثم؛ لأنها لم تر أي دم، فظنت أن الأمور طبيعية، ولم تذهب للفحص الدوري للتأكد؟
وجزيتم خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن التسبب في إسقاط الجنين يوجب الضمان، وقد ذكر الفقهاء صورا عديدة للتسبب الموجبة للضمان، وننقل هنا بعض نصوصهم في ذلك.

جاء في حاشية ابن عابدين الحنفي: (قوله ضرب بطن امرأة) وكذا لو ضرب ظهرها، أو جنبها، أو رأسها، أو عضوا من أعضائها, فتأمل رملي، ونحوه في أبي السعود عن التحرير، وقال السائحاني: يؤخذ مما يأتي من قوله: أسقطته بدواء، أو فعل، أن البطن والضرب ليسا بقيد، حتى لو ضرب رأسها، أو عالجت فرجها ففيه الضمان، كما صرحوا به. اهـ.

وقال في الخيرية: وقد أفتى والد شيخنا أمين الدين بن عبد العال إذا صاح على امرأة، فألقت جنينا لا يضمن، وإذا خوفها بالضرب يضمن. وأقول: وجه الفرق أن في موتها بالتخويف، وهو فعل صادر منه نسب إليه، وبالصياح موتها بالخوف الصادر منها. اهـ.

وفي الشرح الكبير للدردير المالكي: (وفي) إلقاء (الجنين، وإن علقة) بضرب، أو تخويف، أو شم ريح (عشر) واجب (أمه) من زوج، أو زنا، وأما من سيدها فسيأتي (ولو) كانت أمه (أمة) وواجب أمه إن كانت حرة الدية، وإن كانت أمة القيمة، وسواء كانت الجناية عمدا، أو خطأ من أجنبي، أو أب، أو أم كما لو شربت ما يسقط به الحمل فأسقطته .اهـ.

قال الدسوقي في حاشيته: (قوله: أو شم ريح) أي كشم رائحة مسك، أو سمك، أو جبن مقلي. فإذا شمت رائحة ذلك من الجيران مثلا، فعليها الطلب، فإن لم تطلب ولم يعلموا بحملها حتى ألقته، فعليها الغرة؛ لتقصيرها، وتسببها. فإذا طلبت ولم يعطوها، ضمنوا علموا بحملها أم لا، وكذا لو علموا به، وبأن ريح الطعام، أو المسك، يسقطها ولم يعطوها وأسقطت، فإنهم يضمنون، وإن لم تطلب. ويضمن مَن العادة تنبيهه على كالحقنة، والشراب إذا لم ينبِّه عليه. اهـ.

وفي الإقناع للشربيني الشافعي: (و) في (دية الجنين الحر) المسلم (غرة) لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة (عبد أو أمة) وإنما تجب الغرة في الجنين إذا انفصل ميتا بجناية على أمه الحية، مؤثرة فيه سواء أكانت الجناية بالقول كالتهديد والتخويف المفضي إلى سقوط الجنين، أم بالفعل كأن يضربها، أو يؤجرها دواء أو غيره، فتلقي جنينا، أم بالترك كأن يمنعها الطعام، أو الشراب حتى تلقي الجنين، وكانت الأجنة تسقط بذلك، ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء، فينبغي كما قال الزركشي أنها لا تضمن بسببه، وليس من الضرورة الصوم ولو في رمضان إذا خشيت منه الإجهاض، فإذا فعلته وأجهضت، ضمنته. كما قاله الماوردي .اهـ باختصار.

وفي كشاف القناع من كتب الحنابلة: (أو) أسقطت حامل (لشرب دواء لمرض) فتضمن جنينها لسقوطه بفعلها (وإن ماتت حامل، أو) مات (حملها من ريح طبخ، علم ربه بذلك) أي أنها حامل (وكان) ريح الطعام (يقتل الحامل) أو حملها (عادة ضمن) ما تلف بذلك؛ لما فيه من الإضرار، وكذا ريح كبريت ونحوه. وإن لم يعلم بها رب الطعام فلا إثم، والضمان كريح الدخان يتضرر به صاحب السعال، وضيق النفس. اهـ.

وبعد هذا: فالصورة التي ذكرتها في سؤالك غامضة غير واضحة، لكن لو افترضنا أن مرادك بسؤالك: أنك أمرت أخاك بسحب الكرسي الذي كانت أمك تريد الجلوس عليه، دون انتباهها، وأنها عندما همت بالجلوس -والكرسي قد سُحب- وقعت، فسقط الجنين بسبب ذلك، فإن كان هذا هو الواقع: فلا ريب في أن هذا تسبب بإسقاط الجنين، يوجب الضمان، وهو أبلغ في التسبب من صور كثيرة مما نقلناه عن الفقهاء آنفا.

وعليه؛ فإن كان أخوك الذي سحب الكرسي بالغا، فعليه الضمان، وأما إن كان صغيرا غير بالغ، فالضمان عليك؛ لأن المأمور غير المكلف، كالآلة بيد الآمر.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية -في ذكر قواعد الضمان-: القاعدة الرابعة: " الأمر بالتصرف في ملك الغير، باطل ".

- الأمر: هو طلب الفعل جزما، فإذا أمر شخص غيره بأخذ مال شخص آخر، أو بإتلافه عليه، فلا عبرة بهذا الأمر، ويضمن الفاعل.

وهذه القاعدة مقيدة: بأن يكون المأمور عاقلا، بالغا، فإذا كان صغيرا، كان الضمان على الآمر. وأن لا يكون الآمر ذا ولاية وسلطان على المأمور. فلو كان الآمر هو السلطان، أو الوالد، كان الضمان عليهما .اهـ.

وأما عدم مراجعة الأم للطبيب بعد ذلك، فلا يظهر أنها توجب عليها ضمانا؛ لأنها لم تتسبب في إسقاط الجنين.

والضامن لإسقاط الجنين تجب عليه الدية، وهي غرة - عبد أو أمة -، وقد قال الفقهاء: إن قيمة هذه الغرة ـ إن لم توجد ـ هي عشر دية الأم، وقد اختلف العلماء هل تجب على المتسبب، أم على عاقلته.

وتجب كذلك كفارة القتل عند بعض العلماء وهي: عتق رقبة، فمن لم يجدها فصيام شهرين متتابعين، ولا تجب عند علماء آخرين.

وراجع تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 178005، وإحالاتها.

وأما عن توقيت البدء بصيام الشهرين المتتابعين، وطريقة احتساب أيامهما، فراجع الفتوى رقم: 18586 .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني