الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التأويل: معناه، أقسامه، ما يجوز منه وما لا يجوز.

السؤال

نريد منكم نبذة عن مسألة التأويل في الأسماء والصفات، وما هي حدود التأويل؟ ومتى يُلجأ إلى التأويل؟ ومتى يكون اللفظ على ظاهره؟ ومتى تكون هناك قرينة لنفي الصفة أو إثباتها أو صرف معناها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فاعلم أن للتأويل ثلاثة معانٍ قد بيّنها غير واحد من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما -رحم الله الجميع-، وممن ذكرها: الشيخ/ ابن عثيمين -رحمه الله- في تقريب التدمرية، حيث قال: التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأوْل وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه، ويطلق على ثلاثة معان:

الأول: "التفسير" وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: {نبئنا بتأويله}. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وسبق قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين: "تأويل قوله تعالى:" أي: تفسيره. والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.

المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبرًا فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه، وذلك في حق الله كنْه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، وإن كان طلبًا فتأويله امتثال المطلوب.

مثال الخبر: قوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله}. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه قوله تعالى عن يوسف: {هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًّا}.

ومثال الطلب: قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن" أي: يمتثل ما أمره الله به في قوله: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا}. وتقول: فلان لا يتعامل بالربا يتأول قول الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعًا. فأما قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}: فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل. فعلى قراءة الوقف عند قوله: {إلا الله}؛ يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته؛ لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير؛ لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم، فلا يختص علمه بالله تعالى. فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها، وهذا هو التأويل المجهول لنا، وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني، فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، ونحو ذلك، ونعلم أن الحياة ليست هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة، وأن القدرة ليست هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر، وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنْهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله -عز وجل-.

وهذان المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب، والسنة، وكلام السلف.

المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه. وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه. وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل هو حق أو باطل؟ والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به، ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم. مثال ذلك قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}؛ فإن الله تعالى: يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله: {فلا تستعجلوه}. ومنه قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}؛ فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة، والمراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ، لا إذا فرغ من القراءة. وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلًا مذمومًا، وجديرًا بأن يسمى تحريفًا لا تأويلًا؛ مثال ذلك قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}؛ فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علوًّا خاصًّا يليق بالله -عز وجل-، وهذا هو المراد، فتأويله إلى أن معناه استولى وملك، تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح. انتهى.

فبيّن الشيخ/ ابن عثيمين -رحمه الله- معاني التأويل، وما يصح منها وما يبطل، وأن التأويل في اصطلاح المتأخرين الذي هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه، لا بد أن يكون الدليل الذي يقتضي التأويل دليلًا صحيحًا.

وهذا الدليل هو القرائن الصارفة للّفظ عن ظاهره، والتي يرتكز عليها التأويل الصحيح، وقد تكلم الشيخ/ عبد الرحمن بن صالح المحمود في كتابه (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) عن هذه القضية، وذكر فيها كلامًا مهمًّا لشيخ الإسلام ابن تيمية ننقله بتمامه، حيث قال -حفظه الله-: القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أن النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلًا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟ هذه المسألة من المسائل التي كثر الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان:

طائفة: ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت، ونحوه، فهو دليل على جواز التأويل لكل نص وارد في الصفات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلًا، ولو كان ثبوته ودلالته قطعيين -وهذا قول طوائف أهل الكلام مع تفاوتهم في ذلك-.

وطائفة: عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف، وهؤلاء كثيرًا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة.

وكل من الطائفتين لم يوفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل. وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتًا أو نفيًا وتعطيلًا. وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزًا واضحًا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات. بل قد قال شيخ الإسلام جازمًا: "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه -وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس- أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحاب أنه تأول شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف".

فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصًّا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلًا على تأويل الصفات؛ لأن النص نفسه ليس صريحًا في ذلك. وقد أورد شيخ الإسلام عددًا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قاله في مقدمة أحدها، فقد أورد -رحمه الله- مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال: "وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعًا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر ربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد} (النحل: من الآية26) وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر: من الآية2). فتدبر هذا؛ فإنه كثير ما يلغط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ -حيث ورد- دالًّا على الصفة وظاهرًا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فهيا ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى -إضافة صفة- من آيات الصفات، كقوله تعالى: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية56). وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات". انتهى.

ونحيل السائل على فتاوى كثيرة في الموقع بهذا الخصوص، منها هذه الفتاوى ذوات الأرقام التالية:

28674: معنى: تمثيل، تكييف، تنزيه، تعطيل، تأويل.
64272: منهج السلف عدم التأويل مطلقًا إلا بثبوت دليل راجح.
70958: عقيدة السلف الصالح في المعية والعلو.
120021: قواعد لمعرفة صفات الله.
124646: صفات الله لا تشبه صفات المخلوقين.
197971: المنهج الصحيح في الإيمان بالأسماء والصفات.
198743: صفات الله ليست مماثلة لصفات المخلوقين.
229333: أسماء الله الحسنى كلها لها معان، ولا يجوز تشبيه الله أو مساواته بخلقه.
313642: حكم من يؤول بعض الصفات مع عدم إنكارها.
306397: المجاز والحقيقة في صفات الله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني