الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نصيحة لمن دبّ اليأس والقنوط إلى قلبه

السؤال

جزاكم الله خيرًا على هذا الموقع القيم الذي طالما استفدت منه. حصلت لي مصيبة كسرتني، وقلبت حياتي، فلجأت إلى الله عز وجل بالدعاء والإلحاح، وتعلمت كل آداب الدعاء، وتقربت إلى الله بالصدقات، والذكر، والنوافل، والصيام، والقيام، وأعرف أن للدعاء ثلاث حالات، لكنني بشر، وحياتي تتوقف على هذا الأمر، فماذا أفعل لأقوي نفسي ولا أحزن؟ وأدعو أن يبشرني الله بما يسرني، لكن اليوم يمر كسابقه: لا تغير بحالي، فمتى ينتهي ألمي؟ وما الذي يجب عليّ فعله ليستجاب دعائي؟ مع علمي التام أن الله جل جلاله في كل مكان محيط بعباده.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكشف غمتك، ويفرج كربتك، وييسر لك حاجتك، ويرزقك من حيث لم تحتسبي، فهو مأوى المضطرين، وكاشف كرب المكروبين، ما خاب عبد سأله، فاطرحي بين يديه، فالملجأ إليه، والتوكل عليه، وفي الحديث القدسي: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ متفق عليه.

فأنزلي حاجتك به، واشكي إليه بثك وحزنك أسوة بيعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال الله عنه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { يوسف:86}، فكشف الله غمّه، وردّ عليه ابنه.

قال ابن القيم في الفوائد: إذا كان كل خير أصله التوفيق, وهو بيد الله، لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء، والافتقار، وصدق اللجأ، والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًا دونه. اهـ.

فاستعيني بالله عز وجل على قضاء حوائجك بصدق اللجأ، والرغبة، والرهبة إليه، وأكثري من الاستغفار، فهو من أسباب الرزق، وفتح أبوابه، قال تعالى حكاية عن نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا {نوح:10-12}.

ولا تنسي أن تدعي بهذا الدعاء، وهو ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون -يا رسول الله-، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضي عني ديني. رواه الترمذي، وحسنه.

وظاهر من سؤالك أنه قد دب إليك شيء من اليأس والقنوط من رحمة الله بسبب استعجالك استجابة الدعاء، وآفة التعجل في تحقيق مطلوبه من أعظم الآفات التي تعرض للداعي، وما يترتب عليها من الملل، والاستحسار، واليأس، والقنوط، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا بقوله: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي. رواه البخاري، ومسلم.

وبقوله: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. رواه مسلم.

قال ابن القيم -رحمه الله-: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. انتهى.

وراجعي الفتوى رقم: 145233، في معنى عدم التعجل بالإجابة عند الدعاء.

فأحسني الظن بالله تعالى، وتضرعي إليه، فلن يخيب الله رجاءك، قال ابن القيم -رحمه الله-: ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكل عليه، أنه يخيبه، ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله. انتهى.

وتيقني أن الله تعالى لا يفعل بعبده المؤمن إلا خيرًا، علم ذلك أو لم يعلمه، والمؤمن يوقن أن ما يقدر الله تعالى عليه خير له في عاجل أمره وآجله، ففي الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كان له بها أجر.

وقال صلى الله عليه وسلم: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له. رواه مسلم.

قال ابن القيم في طريق الهجرتين: لو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم، ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبه محبة له، وشوقًا إليه، ويقع شكرًا له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات، والتعلق بالأسباب. انتهى.

وانظري الفتاوى التالية أرقامها: 21386، 11571، 74194، وما أحيل عليها فيها للمزيد من الفائدة.

وننبهك أن قولك: الله جل جلاله في كل مكان محيط بعباده ـ إن كان مقصودك إحاطته سبحانه بعباده مهما حلوا إحاطة علم وسلطان، فهذا اعتقاد صحيح.

وأما إن كان مقصودك أن الله في كل مكان بذاته، فهذا اعتقاد باطل، بل هو كفر ـ والعياذ بالله ـ لأن من لوازمه حلول الله في الأنجاس والأقذار، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ، وراجعي بخصوص ذلك الفتوى رقم: 6707.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني