الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إحياء الموتى كرامة لبعض الصالحين... رؤية شرعية

السؤال

إذا طلب الإنسان من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، وكان الطلب حقيقيا، فإن ذلك من الشرك الأكبر كأن يطلب من ولي أن يشفي مرضه، ولكن البعض يدعي أن ذلك كرامة للولي، وابن تيمية يقول إن الولي قد يحي الموتى وبالتالي، إذا طلبنا من الولي إحياء الميت أو إبراء المرضى نكون قد طلبنا من الولي ما يقدر عليه، لأنه كرامة للولي وهكذا الأمر في غيره، فمثلا لو استغاث الغريق بملك كالكتبة الحافظين لينقذه، فهل يكون ذلك شركا لأنه قد يقول لك إن الملك حي يقدر على الإنقاذ وعليه فأنا طلبت من الملك ما يقدر عليه، فاذكر لي المطولات من الكتب التي شرحت هذا الأمر مفصلا وردت فيه على الشبه، وبما أن إحياء الموتى مما يختص به الله سبحانه، فكيف نجمع بينه وبين كون إحدى معجزات نبينا عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى؟ وكيف نفرق بين النبي والولي إذا قلنا إن الولي قد يحيي الموتى كرامة؟ وكيف نفرق بين المعجزة والكرامة لو كان في نفس الموضوع كإحياء الموتى مثلا؟ وهل كرامات الأولياء تكون باختيارهم متى أرادوا أظهروها ومتى أرادوا أخفوها؟ أم هي شيء عابر يؤيد الله به أولياءه، حيث سمعت أن جيش المسلمين قد مشى فوق الماء بقيادة سعد رضي الله عنه؟ وهل جيش المسلمين متى ما أراد كان يمشي فوق الماء بقيادة سعد أم أنه لا يتكرر ويحدث عند الضرورة القصوى؟ وكيف علم سعد أن الكرامة ستحدث للجيش ولن يغرق وذلك قبل أن يعبروا حتى يقول للجيش اعبروا ولن تغرقوا؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يخفى الفرق الكبير بين سؤال الرجل الصالح أن يفعل شيئا أو أن يحقق شيئا للسائل، وبين سؤاله أن يدعو الله تعالى بتحقيق هذا الشيء، فالأول لا يصح إلا إن كان الشيء المطلوب يقع تحت قدرة الرجل الصالح، كأن يعين بمال أو جاه ونحو ذلك، وأما الثاني فيجوز في كل ما يجوز سؤاله من الله تعالى، كأن يدعو له بأن يشفيه الله من مرض مزمن، أو يرزقه بالولد وإن كان عقيما، أو أن ينزل الغيث في وقت القحط، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، ومن ذلك إحياء الميت، الذي ذكره السائل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد ذكر ـ رحمه الله ـ في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان جملة حسنة من كرامات الأولياء من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومنها أن: صلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية، وأخذ سرجه، فمات الفرس... ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق، فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. اهـ.

والمقصود أن التوسل المشروع هنا إنما هو بدعاء الرجل الصالح لا بذاته وقدرته، وانظر الفتوى رقم: 16690.

وبذلك يتبين الخطأ في قول السائل: إذا طلبنا من الولي إحياء الميت أو إبراء المرضى، نكون قد طلبنا من الولي ما يقدر عليه!! فالولي لا يقدر على شفاء المريض ولا إحياء الميت! ولكنه كغيره من الناس يقدر على دعاء الله تعالى وسؤاله أن يفعل ذلك، وعلى ذلك فدعاء الولي والاستغاثة به نوع من الشرك، بخلاف التوسل بدعائه، وراجع في الفرق بين التوسل والاستغاثة، الفتوى رقم: 3835.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فلهذا كان طلب الدعاء جائزا كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه، والأفعال التي يقدر عليها، فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا ونحو ذلك. اهـ.
وأما مسألة الاستغاثة أو الاستعانة بالملائكة، فلم يقم على جوازها دليل صحيح صريح، فبرغم وجودهم في زمن التشريع، وفي زمن الصحابة الكرام، إلا أنه لا يؤثر عنهم استعمال ذلك، وما روي فيها من آثار لم يصح، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 7775، ورقم: 143519.

وجاء في الموسوعة الفقهية: الاستغاثة بالملائكة استغاثة بغير الله تعالى، وكل استغاثة بغير الله ممنوعة، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، ولكن يستغاث بالله ـ ولحديثه أيضا عليه السلام: لما ألقي إبراهيم في النار اعترضه جبريل، فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. اهـ.

وجاء في الفتوى رقم: 25917، من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء، عن سؤال مضمونه: ظهر الخلاف بإصدار مقالة كتبت في إحدى المجلات، ومفادها أن الجن والملائكة مخلوقون، وأعمالهم ليست خارجة عن الأسباب، ولذا إذا استغاث إنسان أو استعان بالجن أو الملائكة فيما يقدرون عليه، فهو مثل ما يستغيث الإنسان بالإنسان الحي الحاضر فيما يقدر عليه، لأن الجن والملائكة والإنسان كلهم مخلوق لله، فلا يكون شركا، وبين ذلك بأمثلة ثلاثة، كلها تدل على أن الاستغاثة بالملائكة والجن فيما يقدرون عليه ليس بشرك، وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت: بأن الاستغاثة والاستعانة بالغائبين من الجن والإنس والملائكة أمر محرم، وهو شرك بالله تعالى، وإنما يستغاث بالحي الحاضر القادر على إغاثة من استغاث به واستعان به، كما استغاث الإسرائيلي بموسى ـ عليه السلام ـ على عدوه من القبط فأغاثه، قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ـ لأن هذا من الأسباب المعروفة المقدرة للبشر عادة، وقد أمرنا باتخاذ الأسباب النافعة، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ـ وإنما تكون الاستعانة فيما لا يقدر عليه إلا الله بالله وحده، قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ـ فحصر العبادة والاستعانة به، وذلك فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقياس الاستغاثة بالغائب على الاستغاثة بالحاضر القادر قياس مع الفارق، ثم إن العبادات توقيفية، الأصل فيها عدم القياس، وبالله التوفيق، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ.
وأما بخصوص الملائكة التي لا تفارق بني آدم، كالحَفَظَة والكَتَبَة، فلا يقال عنهم: غائبون، ولذلك قال ابن سحمان في كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام: وأما الملائكة فلا يقول عاقل: إنهم حاضرون! وإن كانوا أحياء فهم في حكم الغائبين، إلا ما كان من الملائكة الموكلين ببني آدم جائز. اهـ.

وبخصوص هؤلاء الموكلين ببني آدم، فالظاهر أنهم أيضا لا يستعان ولا يستغاث بهم، لعدم ثبوت مثل ذلك عن السلف، ولكون هؤلاء الملائكة لا يتصرفون باختيارهم، بل هم مأمورون مسخرون، فلا يتصرفون إلا في حدود ما أذن لهم فيه، ولذلك قال العلامة المعلمي اليماني في القائد إلى تصحيح العقائد: إن كان الله عز وجل يأذن لأرواح الصالحين الموتى بأمر يتعلق بالأحياء، فلن يكون حال الأرواح إلا كحال الملائكة سواء، بل الأرواح أولى بأن لا يؤذن لها في التصرف بأهوائها، فإنها في غير دار تكليف لا تخشى عقوبة على ما يقع منها بخلاف الملائكة... والمشركون الذين يزعمون أن الملائكة يتصرفون بأهوائهم، يزعمون أنهم غير معصومين، بل يجعلون حالهم كحال البشر مع عظم القدرة، ويقولون: كما أن للإنسان أن يسأل إنساناً آخر أغنى أو أقدر منه ويخضع له، فكذلك له أن يسأل الملائكة ويخضع لهم، لأنهم يعملون ما يشاءون، ويشاءون ما يهوون كالبشر، وقدرتهم أعظم، وهذا الشرك يوجد في بعض مشركي الهند وغيرهم، وعليه كان أكثر الأمم المشركة. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 156643.

وأما مسألة الفرق بين المعجزة والكرامة، فراجع فيها الفتويين رقم: 38994، ورقم: 129091.

وقال شيخ الإسلام في كتاب النبوات: المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثم كرامات الصالحين، ثم خوارق الكفار والفجار، كالسحرة والكهان، وما يحصل لبعض المشركين وأهل الكتاب، والضلال من المسلمين، أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء، فإنهم يقولون: نحن إنما حصل لنا هذا باتباع الأنبياء، ولو لم نتبعهم لم يحصل لنا هذا، فهؤلاء إذا قدر أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء، كما صارت النار بردا وسلاما على أبي مسلم، كما صارت على إبراهيم، وكما يكثر الله الطعام والشراب لكثير من الصالحين كما جرى في بعض المواطن للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إحياء الله ميتا لبعض الصالحين كما أحياه للأنبياء، فهذه الأمور هي مؤكدة لآيات الأنبياء، وهي أيضا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاص، ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم، ولكن قد يشاركونهم في بعضها، كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم. اهـ.

وسئل ابن حجر الهيتمي كما في الفتاوى الحديثية بما لفظه: كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيره من معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومن أحيي كرامة لولي هل له حكم الأحياء أو الأموات؟ فأجاب بقوله: كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، خلافا للمخاذيل المعتزلة والزيدية، وقول الفخر الرازي إن أبا إسحاق الإسفرايني أنكرها أيضا مردود بأنه إنما أنكر منها ما كان معجزة لنبي كإحياء الموتى لئلا تختلط الكرامة بالمعجزة، وغلطه النووي كابن الصلاح بأنه ليس في كراماتهم معارضة للنبوة، لأن الولي إنما أعطى ذلك ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فببركة اتباعه صلى الله عليه وسلم يؤيده الله تعالى بملائكته وروح منه ويقذف في قلبه من أنواره. والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي على يدي وارثه ومتبعه في سائر حركاته وسكناته، وقد تنزلت الملائكة لاستماع قراءة أسيد بن حضير الكندي، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلون في صحفة فسبحت الصحفة وما فيها، ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري... اهـ إلى آخر ما قال.

وراجع الفتوى رقم: 354004.

وأما بقية الأسئلة: فنعتذر عن جوابها اتباعا لسياسة الموقع في عدم جواب غير السؤال الأول من الأسئلة المتعددة في الفتوى الواحدة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني