الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم أخذ أجرة مقابل الدعاء

السؤال

هل يجوز أخذ مال مقابل الدعاء لشخص ما بشفاء ابنه مثلا، وذلك بشرط حصول الشفاء أو المطلوب؟
هل إذا دعا على أحد بالموت فمات، هل يدخل هذا ضمن القتل العمد المنصوص عليه في القرآن، علما بأنه ظالم أو معتد، أو يريد الظلم أو الاعتداء؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن جمعا من العلماء قد نصوا على جواز مجاعلة الراقي على الشفاء والبرء، استدلالا بما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه، فضحك، وقال: «وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم»

جاء في المغني لابن قدامة: وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء؛ لأن أبا سعيد حين رقى الرجل، شارطه على البرء، والصحيح -إن شاء الله- أن هذا يجوز، لكن يكون جعالة لا إجارة، فإن الإجارة لا بد فيها من مدة، أو عمل معلوم، فأما الجعالة، فتجوز على عمل مجهول، كرد اللقطة والآبق، وحديث أبي سعيد في الرقية إنما كان جعالة، فيجوز هاهنا مثله. اهـ.

وقال ابن تيمية: العمل الذي يقصد به المال أنواع:
أحدها: أن يكون العمل مقصودا معلوما، مقدورا على تسليمه. فهذه الإجارة اللازمة.

والثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول، أو غرر، فهذه الجعالة وهي: عقد جائز ليس بلازم، فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد؛ فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة. فإن عمل هذا العمل استحق الجعل وإلا فلا، ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا؛ ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم.

ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برئ، فأخذوا القطيع؛ فإن الجعل كان على الشفاء، لا على القراءة. ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز؛ لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه، فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة. اهـ. باختصار.

وأما الجعالة على الدعاء وعلى استجابته: فقد جوزها بعض العلماء أيضا.

جاء في فتاوى السيوطي: مسألة: إذا قال شخص لآخر: اقرأ لي كل يوم ما تيسر من القرآن، واجعل ثوابه لي، وجعل له على ذلك مالا معلوما ...

الجواب: وأما مسألة القراءة فجائزة إذا شرط الدعاء بعدها، والمال الذي يأخذه من باب الجعالة، وهي جعالة على الدعاء لا على القراءة، فإن ثواب القراءة للقارئ، ولا يمكن نقله للمدعو وله، إنما يقال: له مثل ثوابه، فيدعو بذلك ويحصل له إن استجاب الله الدعاء، وكذا حكم القارئ بلا جعالة في الدعاء. اهـ.

وفي فتاوى السيوطي أيضا: إن القراءة لا يجوز الاستئجار عليها؛ لأن منفعتها لا تعود للمستأجر؛ لما تقرر في مذهبنا من أن ثواب القراءة للقارئ، لا للمقروء له، وتجوز الجعالة عليها إن شرط الدعاء بعدها وإلا فلا، وتكون الجعالة على الدعاء لا على القراءة.

هذا مقتضى قواعد الفقه، وقرره لنا أشياخنا، وفي شرح المهذب أنه: لا يجوز الاستئجار لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتجوز الجعالة إن كانت على الدعاء عند زيارة قبره؛ لأن الدعاء تدخله النيابة، ولا يضر الجهل بنفس الدعاء، وإن كانت على مجرد الوقوف عنده ومشاهدته فلا؛ لأنه لا تدخله النيابة انتهى، ومسألة القراءة نظيره.اهـ.

فأنت ترى أنهم صححوا الجعالة على الدعاء بعد القراءة بحصول مثل ثواب القراءة للجاعل، مع أن استجابة الدعاء محتملة، ولا يمكن العلم باستجابة الدعاء وحصول الثواب، فكذلك الشأن في الجعالة على الدعاء بالشفاء، أو حصول مطلوب ما، بل هي أولى؛ لأنه يمكن حصول غلبة الظن باستجابة الدعاء إن تحقق الشفاء أو المطلوب، وإن كان لا يمكن القطع بأن ذلك من أثر استجابة الدعاء، إذ قد يقع لسبب آخر.

وأما الدعاء على شخص بالموت، فلا يعد هذا من القتل العمد إن مات ذلك الشخص، ولم يذكر العلماء هذا ضمن صور القتل العمد.

قال في زاد المستقنع: فالعمد: أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به، مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطا، أو يلقيه من شاهق، أو في نار، أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما، أو يخنقه أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا، أو يقتله بسحر أو سم، أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله، ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك. انتهى.

ثم إن كان هذا الدعاء بحق، فلا إثم على الداعي، وإلا كان آثما.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني