الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

زيارة الوالدة والإخوة في البيت المغصوب.. رؤية شرعية

السؤال

توفي والدي من سنتين، وترك شقة بنظام إيجار قديم بعقد غير محدد المدة، وثابت في قيمته الإيجارية، والذي أدين لله به أن ذلك العقد باطل، وإنني وإخوتي وأمي نعتبر غاصبين للشقة، إلا إذا حدث تراض بيننا وبين مالك العقار؛ إما برفع القيمة الإيجارية، وإما بترك الشقة له بحسب رغبة مالك العقار.
والإشكالية الآن في أمي فهي مسنة، وروحها في الشقة، ولا أستطيع مجرد أن أكلمها في هذا الأمر؛ لأني متيقن بردها، فأمي مريضة بداء البخل" اضطررت أقول ذلك للحاجة والتبيين" وإذا كلمتها في ذلك الأمر سأقابل منها بالرفض والصراخ، فلن تقبل بأي شكل التراضي مع مالك العقار. وقد أسقط في يدي، ولا أدري ماذا أصنع، وقد تكلمت مع أخي الكبير في ذلك الأمر، ولكنه لم يهتم، وكذلك الصغير الذي قال إن الشقة من حقنا طالما أبرم عقد بيننا وبين المالك، وحاولت إقناعه بحرمة ذلك بلا جدوى.
وأنا أريد أن أتحلل من هذا الأمر. فماذا أصنع؟ وقد فكرت في التحدث مع مالك العقار على انفراد، وأشرح له موقفي على أن أحتسب عدد الليالي التي أقضيها بالشقة خلال العام عند زيارة أمي وأعطيها له بيني وبينه دون علم أحد لو وافق، أما لو أصر على تركنا للشقة، فلا أدري ماذا أصنع مع إخوتي وأمي.
مع العلم أن إخوتي وأنا لكل منا شقته وحياته المستقلة عن تلك الشقة حتى أمي تملك شقة أخرى، ولكنها ترفض بشدة ترك تلك الشقة المؤجرة. وفي حالة لو وافق مالك العقار أن أعطيه مقابل استفادتي من شقته. فهل يصح أن أحتسب ما أدفعه له بهذه الطريقة:
مثلا لو قيمة الإيجار 1000 ج المفترض أنها موزعة علي أنا وإخوتي وأمي. أمي الثمن يعني 125، وأنا وعدد 2 إخوة الباقي يعني 875 يعني الواحد منا 292ج تقريبا. بعد ذلك أقسم ال292 على عدد أيام الشهر يعني حوالي 10ج في اليوم، بعد ذلك أضرب عدد الأيام التي اقضيها بالشقة في ال10ج.
أفيدوني، بالله عليكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يفرج همك، وأن يشرح صدر والدتك للحق الذي تبرأ به ذمتها.
فقد أصاب الأخ السائل في اعتقاده بطلان عقد الإجارة المذكور، وأنه يلزم رد الشقة إلى مالكها، وقد سبق لنا بيان ذلك في عشرات الفتاوى، فراجع منها على سبيل المثال الفتاوى التالية أرقامها: 131342، 179523، 116630.
والحيلولة بين هذه الشقة وبين مالكها عن طريق هذا العقد الباطل، يعد نوعا من الغصب الذي يوجب ضمان منافعها على فاعله.

جاء في (الموسوعة الفقهية) في بيان مذهب المالكية والشافعية والحنابلة ومحمد وزفر من الحنفية: أن الغصب يتحقق بمجرد الاستيلاء، أي إثبات يد العدوان على الشيء المغصوب، بمعنى إثبات اليد على مال الغير بغير إذنه، ولا يشترط إزالة يد المالك. وليس المقصود من الاستيلاء، الاستيلاء الحسي بالفعل، وإنما يكفي الحيلولة بين المال وبين صاحبه، ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه. اهـ.

وجاء فيها أيضا: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ومحمد وزفر من الحنفية إلى أنه يتصور غصب العقار من الأراضي والدور، ويجب ضمانها على غاصبها؛ لأنه يكفي عندهم لتوافر معنى الغصب إثبات يد الغاصب على الشيء بالسكنى ووضع الأمتعة وغيرها، ويترتب عليه ضمنا بالضرورة إزالة يد المالك؛ لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 146407.

ولذلك فإن زيارة الوالدة والإخوة في هذه الشقة والبقاء فيها بعض الليالي، أمر مشكل حقا، وقد استنكر مثل ذلك الإمام أحمد، فقال المروذي في كتاب الورع (ص 35): قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - : رجل له والدة مريضة، وقد كان أبوه اشترى طوابيق من مكان يكره، وهو الغصب، وقد فرش الدار بها، ترى للابن أن يدخل إلى أمه؟ قال: لا! كيف يدخل، أليس يريد أن يطأها؟! اهـ. والطوابيق هي القراميد، وهي الحجارة التي يُبنى بها، أو تفرش على الأرض، قال الأزهري في (تهذيب اللغة): ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي: يُقَال لطوابيق الدَّار: القَراميد، وَاحِدهَا قِرْمِيد. اهـ. وقال ابن سيده في (المحكم): القرميد: حِجَارَة لَهَا خروق يُوقد عَلَيْهَا حَتَّى إِذا نَضِجَتْ يبْنى بهَا. اهـ. وكلام الإمام أحمد السابق اعتمده ابن قدامة وغيره من فقهاء الحنابلة في مسائل الغصب، فحرموا دخول الدار المغصوبة، ولو على سبيل الزيارة!

قال في (المغني): إذا غصب أرضا، فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب. فإن كانت محوطة، كالدار والبستان المحوط، لم يجز لغير مالكها دخولها؛ لأن ملك مالكها لم يزل عنها، فلم يجز دخولها بغير إذنه، كما لو كانت في يده ... ونقل المروذي عن الإمام أحمد، في رجل والداه في دار طوابيقها غصب: لا يدخل على والديه. وذلك لأن دخوله عليهما تصرف في الطوابيق المغصوبة. ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد، في رجل له إخوة في أرض غصب: يزورهم ويراودهم على الخروج، فإن أجابوه، وإلا لم يقم معهم، ولا يدع زيارتهم. يعني يزورهم بحيث يأتي باب دارهم، ويتعرف أخبارهم، ويسلم عليهم، ويكلمهم، ولا يدخل إليهم ... اهـ. وذكر نحوه الرحيباني في (مطالب أولي النهى).

وفي ضوء ما ذكره السائل فلا نرى له سبيلا إلا في ما فكَّر فيه من شرح موقفه لمالك الشقة، واستئذانه في دخولها لزيارة أمه، فإن أذن له، فلا حرج عليه، سواء بأجرة أو بغير أجرة. وأما طريقة الحساب المذكورة فلا اعتبار لها، وإنما المعتبر هو ما يرضى به المالك؛ لأنه صاحب الحق في ذلك، فالأمر على ما يتفقان عليه، قليلا كان أو كثيرا.

وعليه أن يحاول إقناع أمه وإخوته بالحكم الشرعي على ضوء ما ذكرناه له من كلام أهل العلم، وإن غضبت أمه فلا يعد ذلك عقوقا منه لها، بل هو نصح واجب، وليكن خطابه لها بحكمة ورفق ولين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني