الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يحق لمن ربّى شخصًا مطالبتَه بما أنفقه عليه بعد أن يصير ذا مال؟

السؤال

أنا رجل أبلغ من العمر ثلاثين عامًا، توفي أبي وأنا صغير، وذهبت أمي لبيت أخوالي، وتربيت مع أمي وأخوالي، إلى أن كبرت، وسافرت، وأكرمني الله بمال، فبنيت شقة على بيت أخوالي، واشتريت قطعة أرض مجاورة للبيت، وبعد مدة أردت أن أعيش في معيشة خاصة بي، وبأمي، وأولادي، ففوجئت بأخوالي يطالبونني أن أترك الشقة، وكذلك يريدون أن يشاركوني في قطعة الأرض؛ بحجة أننا كنا نأكل ونشرب مع بعض، ومعيشتنا مشتركة، وبحجة أنهم هم من ربوني إلى أن كبرت، فهل يحق لهم هذا، أم إنهم لا يستحقون شيئًا مقابل تربيتي؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالقاعدة في هذا الباب أن ما ينفقه المرء من نفقة لا تلزمه شرعًا، إذا أنفقه بقصد التطوع، أو التبرع، فليس له حق الرجوع فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه، ليس لنا مثل السوء. رواه البخاري، ومسلم.

وأما إذا أنفق بنية الرجوع، فإن له أن يرجع به، إذا أثبت ذلك ببينة من إشهاد، أو إقرار المدعى عليه، وانظر للفائدة الفتوى: 96917.

وعلى ذلك؛ فليس لأخوال السائل أن يطالبوه بالمال الذي أنفقوه عليه، إلا إن ادعوا أنهم أنفقوه؛ ليرجعوا به عليه، وعندئذ؛ فلا بدّ من بينة لإثبات هذه النية، ثم لا بدّ كذلك من بيان قدر هذا المال المنفق؛ ليأخذوا مثله، لا أكثر، وهذا كله إن كان السائل قد بلغ الحلم عند ذهابه لأخواله، وإلا فالنفقة عليه قبل بلوغه، وقد مات أبوه، لا تكون إلا احتسابًا، كسائر النفقة على الأيتام الفقراء، قال الإمام مالك -كما في المدونة-: في الصبي لا شيء عليه -وإن كبر، وأفاد مالًا- فيما أنفق عليه. اهـ. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: الولد إذا لم يكن له مال، ولا لأبيه، فهو كاليتيم الذي لا مال له، لا شيء لمن أنفق عليه؛ لأن نفقته عليه على وجه الحسبة؛ إذ ليس له أن يوجب في ذمته دينًا بغير رضاه، ولا برضاه؛ إذ ليس ممن يجوز على نفسه رضاه، وإذا كان له، أو لليتيم مال، فللمنفق عليهما أن يرجع بنفقته في أموالهما، إذا كانت له بالنفقة بينة، وإن لم يشهد أنه إنما أنفق ليرجع بعد يمينه أنه إنما أنفق عليهما ليرجع في أموالهما، لا على وجه الحسبة. اهـ.

وقال ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات: قال ابن القاسم: ومن أنفق على صغير له مال، رجع عليه في ماله، فإن تلف ذلك المال، وأفاد مالًا ثانًيا، لم يتبعه بشيء، إلا فيما كان له قبل الانفاق. قال مالك: وسواء أشهد أنه إنما أنفق ليرجع، أو لم يشهد، إذا ادعى أنه أنفق عليه، كلف البينة بذلك، أو بأنه كان في حوزه، وحجره، يكفله، ولا يعلم أحد ينفق عليه غيره، ويقول هو: أنفقت عليه لأتبعه. قال: ويحلف أنه أنفق عليه ليتبعه ... وإذا قال الولي في اليتيم لا مال له: أن أنفق عليه، على أن أتبعه إن أفاد شيئًا، وإلا فهو في حل، ولا أدعه يموت، فلا ينفعه ذلك، ولا اتباع له. اهـ.

والخلاصة؛ أن أخوال السائل ليس لهم المطالبة بما أنفقوه عليه، إلا إن أقاموا بينة على نية رجوعهم عليه بما أنفقوا، وكان هو إذ ذاك بالغًا، وأما قبل البلوغ، فلا بدّ من أن يكون له مال يعلمه أخواله، وإلا فليس لهم الرجوع عليه بما أنفقوا عليه في صغره، حتى ولو مع نية الرجوع عليه به.

وأما الشقة التي ذكر السائل أنه بناها على بيت أخواله، فالظاهر أنه بناها على سطح بيتهم بإذنهم، وإذن المرء بالبناء على سطح بيته، يدور بين هبة السطح وعاريته، بحسب ما تم الاتفاق عليه، وإلا فبحسب ما جرى به العرف.

والعارية لا يترتب عليها تملك، بخلاف الهبة النافذة بشروطها، فإن كان ما تم هبة نافذة للسطح، فهذه الشقة ملك للسائل، وإن كان عارية للسطح، فليس له إلا قيمة ما بناه، على خلاف بين أهل العلم هل تقدر قيمته قائمًا أم منقوضًا، وراجع في ذلك هاتين الفتويين: 106557، 65439.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني