الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طاعة الوالدين في ترك طلب العلم والنوافل

السؤال

نحن من المغرب، وأحد الإخوة طالب علم، وقد ابتلاه الله بوالدين بعيدين غاية البعد عن الدِّين، وهذا الأخ يعاني من حالة اكتئاب نفسي شديدة بسبب والديه، لكن والداه لا يعرفان ذلك؛ لأنه يخفي حاله أمامهما، وهو حريص قدر استطاعته على برّ والديه، ويريد أن يكون عالمًا، ويقول: إنه قرأ جلّ ما قيل في طاعة الوالدين من أقوال الأئمة -منهم ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى، وابن تيمية، وابن الصلاح، وابن حجر، والإمام أحمد، وغيرهم-، وعرف أنه لا تجب الطاعة إلا فيما ينتفعان به، أو كان لديهما غرض صحيح في أمرهما، ومع ذلك فهو يسأل: أليس حينما يغضبان ويحزنان ويسخطان عليه، والأمّ قد تبكي ليلًا ونهارًا بسبب مخالفته، أليس هذا يعدّ ضررًا يوجب الطاعة؟ فلو لم يطع والديه في عدم دخول كلية الشريعة، وفي عدم التفرغ لطلب العلم، أو في ترك الزهد والتقلل من الدنيا، أو في عدم صوم صيام داود، أو في عدم لبس ما يحب أن يلبس من الألبسة الإسلامية، فهو يكره لبس البنطلون، ويستحيي من لبسه، ويقول: إنه لا يليق بطالب العلم تلك الألبسة، وغيرها من الأمور التي لا تجب فيها الطاعة في الأصل، وغضب والداه، وسخطا على الابن، وتسبب في إبكاء أمه، فهل يكون عاقًّا في تلك الحالة؟ وأنبّه إلى أن جلّ أوامرهما تصدر بسبب قلة الدِّين.
أخيرًا: أعرف سياسة الموقع أنكم لا تستقبلون أكثر من سؤال، لكني سأطرح سؤالًا آخر باعتبار أنه متعلق بالموضوع تمامًا، فهو يقول: إنه لا يفهم جيدًا ماذا أراد ابن حجر الهيتمي بهذه الجمل: يقول في الفتاوى الفقهية الكبرى: وقضية هذا أنه حيث وجد ذلك التأذي - ولو من طلبه للعلم، أو زهده، أو غير ذلك من القُرَب -، لزمه إجابته؟
قلت: هذه القضية مقيدة بما ذكرته: أن شرط ذلك التأذي ألّا يصدر عن مجرد الحمق، ونحوه، كما تقرر. شكرًا جزيلًا، وأعانكم الله.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالأمر على ما ذكر من أن هنالك ضوابط لوجوب طاعة الوالدين فيما يأمران به أو ينهيان عنه، أهمها: أن يكون في غير معصية لله عز وجل، وأن يكون للوالدين في ذلك غرض صحيح، وألّا يكون فيما أمرا به أو نهيا عنه ضرر على الولد أو مشقة، ولمزيد الفائدة، راجع الفتوى: 76303.

والأصل وجوب طاعة الوالدين، وتقديمها على النوافل، إن منعا منها، فطاعة الوالدين فرض، فلا تعارض بالنافلة، ودليل ذلك قصة جريج الراهب، وهي ثابتة في الصحيحين، ولكن الحكم في هذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون الحامل للوالدين على ذلك ما ذكره الهيتمي من أن شرط ذلك التأذي: ألّا يصدر عن مجرد الحمق، ونحوه، فيكون مثلًا الداعي لذلك رقة دِين الوالدين، وجهلهما، ولا يحبان أن يكون الولد على شيء من التدين، فيطلبان تركه النوافل بالكلية، فلا تجب الطاعة في مثل هذا، ولا يلتفت إلى ما ذكر في هذه الحالة من الغضب، والسخط، والحزن من الوالدين، أو أحدهما؛ ولذلك قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري تعليقًا على قصة جريج: وفي الحديث أيضًا: عظم بر الوالدين، وإجابة دعائهما، ولو كان الولد معذورًا؛ لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد. اهـ.

فتبين مما ذكرنا أن مقصود الهيتمي باشتراط ألّا يكون الدافع مجرد الحمق هو: ألّا يكون للوالدين غرض صحيح في المنع، أو مسوّغ مشروع.

وختامًا نقول: مهما أمكن الولد أن يرضي والديه، فليفعل.

ومن السبل لكسب رضاهما: أن يتودد لهما، ويتلطف بهما، ويداريهما بحيث يقنعهما بالموافقة على ما يريد أن يقدم عليه من نوافل الطاعات، وصالحات الأعمال، فيجمع بذلك بين الحسنيين. ولمزيد الفائدة، نرجو مطالعة الفتويين: 9210، 233401.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني