الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قول رسول الله: "أعفوا اللحى" بقصّها لأن عفا من الأَضداد

السؤال

ما قول أهل العلم في هذا القول: "إن العفو من الأضداد، وبذلك يكون معنى إعفاء اللحية: قصّها"؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فحديث: احْفُوا الشَّوَارِبَ، وَاعْفُوا اللِّحَى. من الإعفاء، ومعناه: الترك، وقد جاء في بعض الروايات: وفروا اللحى. وفي بعضها: أرخوا اللحى. ومع أن كلمة: "عفا" قد تأتي بمعنى "قل"، و"أخذ"، فإنه لا يمكن تفسيرها في هذا الحديث بذلك؛ لأن الروايات الأخرى تبين أن المراد منها التكثير والترك، وليس الأخذ؛ ولهذا تجد شراح الحديث، وعلماء اللغة- كأبي عبيد، وغيره- فسروا الإعفاء في هذا الحديث بالتوفير، والتكثير، قال في تحفة الأحوذي: (وَاعْفُوا اللِّحَى) مِنَ الْإِعْفَاءِ، وَهُوَ التَّرْكُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ رِوَايَاتٍ: اعْفُوا، وَأَوْفُوا، وَأَرْخُوا، وَارْجُوا، وَوَفِّرُوا، وَمَعْنَاهَا كُلُّهَا: تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا. اهــ.

وقال القرطبي في شرح مسلم: قال أبو عبيد: يقال: عفا الشيء، إذا كثر وزاد. وأعفيته أنا، وعفا، إذا درس، وهو من الأضداد. وقال غيره: يقال: عفوت الشعر، وأعفيته لغتان، فلا يجوز حلقُها، ولا نتفُها، ولا قصّ الكثير منها. فأما أخذ ما تطاير منها، وما يُشوِّهُ ويدعو إلى الشهرة طولًا وعرضًا، فحسنٌ عند مالك، وغيره من السلف، وكان ابن عمر يأخذ من طولها ما زاد على القبضة. اهــ.

كما أن الأصل في مادة هذه الكلمة: الطلب، والترك، لا الأخذ، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (عفو) العين والفاء والحرف المعتلّ أصلان: يدلُّ أحدهما على تركِ الشيء، والآخر على طَلَبِه. ثم يرجع إليه فروعٌ كثيرة، لا تتفاوَتُ في المعنى. اهــ.

ولا نعلم أحدًا من أهل العلم فسر الإعفاء في هذا الحديث بقصّ اللحية، وإنما وُجِدَ من فسره بالأخذ مما شذّ من اللحية طولًا وعرضًا، وحتى هذا التفسير استغربه أهل العلم، قال الحافظ في الفتح: قَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ: تَفْسِيرُ الْإِعْفَاءِ بِالتَّكْثِيرِ، مِنْ إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْفَاءِ: التَّرْكُ، وَترك التَّعَرُّض للحية يسْتَلْزم تكثيرها، وَأغْرب ابن السَّيِّدِ، فَقَالَ: حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: "أَعْفُوا اللِّحَى" عَلَى الْأَخْذِ مِنْهَا؛ بِإِصْلَاحِ مَا شَذَّ مِنْهَا طُولًا وَعَرْضًا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ: عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَفِّرُوا، أَوْ كَثِّرُوا، وَهُوَ الصَّوَابُ.

قَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَهِمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: "أَعْفُوا اللِّحَى" تَجْوِيزَ مُعَالَجَتِهَا بِمَا يُغْزِرُهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، قَالَ: وَكَأَنَّ الصَّارِفَ عَنْ ذَلِكَ قَرِينَةُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ: "وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ". انْتَهَى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني