الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إشكال في فهم آية: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا.." وحديث: "إنما مثل الجليس..."

السؤال

التبس عليّ فهم هذه الآية: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ، فإن الإسلام لا يفرّق بين سيّد ومسود، فكيف لا يستوي العبد المملوك مع السيد!؟
وكذلك هذا الحديث لحامل المسك ونافخ الكير، فهل في هذا الحديث غضّ من قيمة نافخ الكير بأنه إما يحرقك، وإما تجد منه ريحًا منتنة، وهو يعمل عملًا رزقه حلال.
أرجو منكم التوضيح، وأسألكم الدعاء بالثبات، واليقين.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأما بالنسبة لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {النحل:75}، فهي من باب ضرب المثل؛ لعدم مساواة الله تعالى الملك الخالق القادر لشيء من آلهة الكفار العاجزة الضعيفة المخلوقة، فقد جاء في التفسير الوسيط: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: أورد حجة على سبيل التشبيه والتمثيل... بعد أن نهى الله سبحانه عن الإِشراك به، وقرّع المشركين، ووبّخهم على اتخاذ الأنداد له تعالى، ضرب مثلين يوضح بهما عدم التساوي بينه وبين أحد أو شيء من خلقه؛ ليدرك العاقل أنه إِذا انتفت المماثلة فيهما، وجب التوحيد، وامتنع الشرك بالبداهة.

والمعنى: صوّر الله حالكم في إِشراككم أوثانكم العاجزة بالله القدير الكريم الكثير الخير والبر، صوّر لكم ذلك ومثّله بحال من يُسوّي بين عبد مملوك عاجز عن التصرف شديد الحاجة إلى غيره، وبين حرٍّ رزقه الله رزقًا واسعًا، فهو ينفق منه على غيره، ويتفضّل به على سواه، في السر والعلانية، حسب مقتضيات الإنفاق، ويتصرف فيه بحكمة، فكيف يستوي هذا الحرّ الكامل التصرف مع هذا العبد الشديد العجز عن التَّصرُّف، فضلًا عن أَنه لا يملك أَمر نفسه؛ ولهذا سأل الله العقلاءَ بأسلوب الاستفهام الإنكاري، فقال: (هَلْ يَسْتَوُونَ)؟: أي هل يعقل أنّ هذا العبد الضعيف العاجز عن التصرف يتساوى مع الحرّ المتصرف على أحسن الوجوه، وإذا كانا لا يستويان بداهة، فكيف يسوّي هؤُلاء المشركون أوثانهم العاجزة بالله الخالق الرازق المدبر المحسن في السر والعلن!؟

ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}؛ لبيان أن وضوح هذه الحجة يقتضي الثناء الكامل، والحمد التام لله وحده؛ لأنه المستحق له دون سواه، ولكن أكثر هؤلاء الكفار لا يعلمون أن هذا هو الحق؛ وذلك لجهالتهم، وغفلتهم، ولمّا كان فريق آخر منهم يعلم ذلك ويعرفه، ولكنه لا يعمل بموجبه عنادًا واستكبارًا؛ فلهذا قيل: (بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُون) ولم يقل: بل هم لا يعلمون. وقيل: المراد أنهم جميعًا لا يعلمون، فعبَّر بأكثرهم عن جميعهم. اهـ.

وأما بالنسبة للحديث فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا لتأثير الصحبة، فقال: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير: فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة. متفق عليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقصد بها تقريب المعاني المدركة بالعقول في صورة أمور محسوسة، من أجل فهم المعنى المطلوب، ومن أجل تصوّره، ومن أجل أن يقع في الذهن موقعًا يؤثّر فيه، وهذا كثير في الأمثال المضروبة في القرآن والسنة.

وعليه؛ فلا إشكال في الآية، ولا في الحديث؛ لأن الكل من باب ضرب المثل، وتقريب المعاني للناس بضرب الأمثال المعروفة المحسوسة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني