الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المذموم من ترك الدعاء، ومعنى إجابة الدعاء

السؤال

لي حاجة أطلبها من الله في كل صلاة، وفي كل سجدة، وفي كل يوم في الثلث الأخير من الليل منذ سنوات، وإلى هذه اللحظة أدعو الله أن يستجيب لي، ولست يائسة من رحمة الله، بل أحسن الظن بالله كثيرًا، وأعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه هو اللطيف، ولكني أحيانًا أفكر في أن هذه الحاجة ليس فيها خير، ولكني أعيد التفكير، وأقول: إن الله علّق قلبي بها؛ لكي أدعوه كثيرًا، وأتذلل إليه، فيستجيب لي، فاللهم لا تعلق قلبي إلا بك... لكن لنا ضرورة وأهمية في حياتي، وحياة من معي.
سؤالي هو: إذا تركت الدعاء وسؤال هذه الحاجة، فهل أكون مذنبة؟ علمًا أني لا أستطيع نسيانها، ولا تخطيها أبدًا، ولكنها لا تتحقق، وأشعر بالذنب عندما أقرر أن أتركها. بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا يجب الدعاء بأمر معين من أمور الدنيا، ولا إثم في عدم الدعاء به بعينه.

وإنما من المذموم أن يترك العبد دعاء الله جل وعلا استعجالًا منه، واستبطاء للإجابة، جاء في الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: «قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء». أخرجه مسلم في صحيحه.

قال ابن القيم: ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله. اهـ. من الجواب الكافي.

والذي يحمل العبد على الاستحسار، والانقطاع عن الدعاء: هو جهله بمعنى إجابة الدعاء؛ وذلك أن استجابة الدعاء لا تعني إعطاء الداعي عين ما سأل، أو أن يجاب في الوقت الذي عيّنه في دعائه، بل استجابة الدعاء تكون بإحدى ثلاث، وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ما من مسلم يدعو بدعوة، ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدّخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نكثر، قال: الله أكثر. رواه أحمد، وصححه الحاكم.

قال القرطبي: (قوله: لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم) يعني بالعبد: الصالح؛ لقبول دعائه؛ فإن الدعاء لا بد له من شروط في الداعي، وفي الدعاء، وفي الشيء المدعو به.

فمن شرط الداعي بأن يكون عالمًا بأنه لا قادر على حاجته إلا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته، ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة، وحضور قلب، وأن يكون مجتنبًا لأكل الحرام، وألا يملّ من الدعاء فيتركه ويقول: قد دعوت فلم يستجب لي. كما قال في الحديث.

ومن شروط المدعو فيه: أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا، كما قال: ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في قطيعة الرحم جميع حقوق المسلمين، ومظالمهم. وقد بينا أن الرحم ضربان: رحم الإسلام، ورحم القرابة.

ويستحسر، يعني: ويملّ. يقال: حسر البعير يحسر، ويحسر حسورًا: أعيا. واستحسر وتحسر مثله.

وفائدة هذا: استدامة الدعاء، وترك اليأس من الإجابة، ودوام رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء؛ فإن الله يحب الملحين عليه في الدعاء، وكيف لا؟ والدعاء مخ العبادة، وخلاصة العبودية.

والقائل: قد دعوت فلم أر يستجاب لي، ويترك -قانطًا- من رحمة الله، وفي صورة الممتنّ بدعائه على ربه، ثم إنه جاهل بالإجابة، فإنه يظنها إسعافه في عين ما طلب، فقد يعلم الله تعالى أن في عين ما طلب مفسدة، فيصرفه عنها، فتكون إجابته في الصرف، وقد يعلم الله أن تأخيره إلى وقت آخر أصلح للداعي، وقد يؤخره؛ لأنه سبحانه يحب استماع دعائه، ودوام تضرعه، فتكثر أجوره؛ حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضي له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدّخر له، وإما أن يكفر عنه، ثم بعد هذا كله، فإجابة الدعاء -وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة-، فهي مقيدة بمشيئته، كما قال تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء}.اهـ. من المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم.

وقال ابن تيمية: فالدعوة التي ليس فيها اعتداء، يحصل بها المطلوب، أو مثله. وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعًا، أو مفسدًا للداعي، أو لغيره، والداعي جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئًا بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له، فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى. اهـ. من مجموع الفتاوى.

وقال ملا قاري: الإجابة على أنواع:

منها: تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب.

ومنها: وجوده في وقت آخر؛ لحكمة اقتضت تأخيره.

ومنها: دفع شر بدله، أو إعطاء خير آخر خير من مطلوبه.

ومنها: ادّخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه. اهـ. من مرقاة المفاتيح.

فينبغي أن تستمري في الدعاء، والطلب، والإلحاح على الله، واحرصي على ألا تسألي ربك أمرًا معيًنا من أمور الدنيا إلا مقرونًا بالخيرة منه سبحانه، فرب أمر ظاهره الخير، يكون فيه هلاك العبد، قال ابن القيم: فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئًا معينًا خيرته وعاقبته مغيبة عنك، وإذا لم تجد من سؤاله بدًّا، فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة، وقدم بين يدي سؤالك الاستخارة، ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة، بل استخارة من لا علم له بمصالحه، ولا قدرة له عليها، ولا اهتداء له إلى تفاصيلها، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك، وانفرط عليه أمره.

وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال، تسأله أن يجعله عونًا على طاعته، وبلاغًا إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعًا لك عنه، ولا مبعدًا عن مرضاته.

ولا تظن أن عطاءه كلّ ما أعطى لكرامة عبده عليه، ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه. اهـ. من مدارج السالكين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني