الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

موت المريض بسبب الصوم... رؤية شرعية

السؤال

1) إذا صام مريض، وكان صيامه سببا في موته. فهل هذه خاتمة حسنة؟ أم أنه أخطأ عندما لم يأخذ بالرخصة ويفطر؟
2) وهل هو من أهل هذه الآية: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟ هل هو ألقى بنفسه في التهلكة، وارتكب إثما عظيما وهو قتل النفس وإهلاكها؟
3) أريد من سيادتكم رسالة لكل مريض أفطر بسبب مرضه. -هل يأخذ ثوابه كاملا؟ أم أنه لا يأخذ أي ثواب لصيام رمضان؛ لأنه أفطر؟ ولهذا قد تجده يصوم، وهو يعرف أن الصيام فيه ضرر له؛ طمعا في الثواب- أن تعرفه أنه بأمر الله -عز وجل- يأخذ ثوابه كاملا بالنية، وأن إفطاره بسبب المرض لا ينقص من أجره شيئا. فهل هذا الحكم صحيح شرعا أنه يأخذ أجره كاملا.
وجزاكم الله -عز وجل- خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنقول ابتداء قد اختلف الفقهاء في حكم صوم المريض الذي يخاف بصومه التلف هل يحرم عليه الصيام أم يُكره؟ فقيل يكره وقيل يحرم، قال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: إذَا خَافَ التَّلَفَ بِصَوْمِهِ: أَجْزَأَ صَوْمُهُ وَكُرِهَ. عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَقَالَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَالِانْتِصَارِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَالْفَائِقِ وَغَيْرِهِمْ: يَحْرُمُ صَوْمُهُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَمْ أَجِدْهُمْ ذَكَرُوا فِي الْإِجْزَاءِ خِلَافًا. اهــ
و المفتى به عندنا التحريم كما سبق أن بيناه في الفتوى: 377863 .

فيجب على المريض الذي يخاف ضررا بالصوم أن يفطر ويحرم عليه الصوم، جاء في الشرح الصغير للدردير المالكي: (وَوَجَبَ) الْفِطْرُ (إنْ خَافَ) بِالصَّوْمِ (هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ ضَرَرٍ)، كَتَعْطِيلِ حَاسَّةٍ مِنْ حَوَاسِّهِ.. اهــ.
وقد وجه السرخسي في أصوله وجوب الفطر على من يخشى الهلاك، وأنه إن صام فمات فهو قاتل لنفسه، قال: "الصوم مع الجماعة في شهر رمضان يكون أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر، وإن كان أشقَّ على بدنه، ومن وجه الترخص بالفطر مع أداء الصوم بعد الإقامة أيسر عليه لكيلا تجتمع عليه مشقتان في وقت واحد: مشقة السفر ومشقة أداء الصوم، وإذا كان في كل جانب نوع ترفه يخير بينهما للتيسير عليه، وبعد تحقق المعارضة بينهما يترجح جانب أداء الصوم لكونه مطيعا فيه عاملا لله تعالى، إلا أن يخاف الهلاك على نفسه إن صام فحينئذ يلزمه أن يفطر لأنه إن صام فمات كان قتيل الصوم وهو المباشر لفعل الصوم فيكون قاتلا نفسه، وعلى المرء أن يتحرز عن قتل نفسه، بخلاف ما إذا أكرهه ظالم على الفطر فلم يفطر حتى قتله، لأن القتل هنا مضاف إلى فعل الظالم فأما هو في الامتناع عن الفطر عند الإكراه مستديم للعبادة مظهر للطاعة عن نفسه في العمل لله تعالى وذلك عمل المجاهدين" اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى – في فتوى له في سلسلة اللقاء الشهري: " ... وأما المريض فإذا قال الطبيب الثقة إن الصوم يضره صار الصوم في حقه حراما، لقول الله تبارك وتعالى : (( ولا تقتلوا أنفسكم ))، (( ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة )) فإن قال قائل : إن الآية في القتل (( ولا تقتلوا أنفسكم )) قلنا: إن عمرو بن العاص استدل بهذه الآية علي ما يحصل به الضرر، فأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ... فنقول الآية في القتل وما دونه، كل شيء فيه ضرر على نفسك فهو حرام عليك، فنقول للمريض الذي قال له الطبيب أن الصوم يضره ولكنه صام، نقول هذا حرام عليك ويخشى إن صمت وكان صومك سبب في موتك أن تكون ممن أعان علي قتل نفسه" انتهى.
ولا يقال لمن مات بهذا السبب إنه مات على حسن خاتمة، بل يخشى عليه أن يكون ممن أعان على قتل نفسه، كما قال الشيخ ابن عثيمين. وقد روى مسدد كما في المطالب العالية لابن حجر عن أبي سعيد مولى المهري قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ صَاحِبٍ لِي مِنَ الْعُمْرَةِ فَوَافَيْنَا الْهِلَالَ هِلَالَ رَمَضَانَ، فَنَزَلْنَا فِي أَرْضِ أبي هريرة رضي الله عنه فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَأَصْبَحْنَا مُفْطِرِينَ إلَّا رَجُلًا مِنَّا وَاحِدًا، فَدَخَلَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نِصْفَ النَّهَارِ فَوَجَدَ صَاحِبَنَا يَلْتَمِسُ بَرْدَ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا بَالُ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: صائِم، قَالَ: مَا حَمَلَهُ عَلَى أَنْ لَا يُفْطِرَ قَدْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْتُ عليه. اهــ، قال الحافظ ابن حجر: موقوف صحيح. وقال البوصيري: رواه مسدد ورجاله ثقات.
ورسالتنا لكل مريض يتضرر بالصوم أن عليه التمسك بتقوى الله تعالى، وعدم إلحاق الضرر بنفسه، وليعلم أن الله تعالى يثيبه كما لو صام لأنه معذور، وقد دل الشرع على أن المسلم يكتب له أجر ما كان يعمله، إذا حيل بينه وبين ذلك العمل.
ففي صحيح البخاري عن إِبْرَاهِيم السَّكْسَكِيّ ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ ، وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا». وفي الصحيحين من حديث أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في غَزَاةٍ فقال: إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا ما سَلَكْنَا شِعْبًا ولا وَادِيًا إلا وَهُمْ مَعَنَا فيه، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ.
قال النووي في شرح صحيح مسلم : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ النِّيَّةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ مَنْ نَوَى الْغَزْوَ وَغَيْرَهَ مِنَ الطَّاعَاتِ فَعَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ نِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ، وَتَمَنَّى كَوْنَهُ مَعَ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهُمْ، كَثُرَ ثَوَابُهُ. اهــ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ أَجْرَ الْعَامِل إِذا مَنعه الْعذر عَن الْعَمَل. اهــ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني