الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عذاب الاستئصال وقصة أصحاب القرية في سورة يس

السؤال

كنت قد قرأت أن الله -سبحانه وتعالى- ألغى عقوبة الإهلاك الجماعي بعد فرضه الجهاد على المؤمنين في زمن موسى -عليه السلام-، وأنه لم يتم إهلاك العامة بعد ذلك. فما صحة هذا الاستنباط؟
وإن كان صحيحا، فكيف يكون أصحاب القرية الذين بعث إليهم المرسلون المذكورة قصتهم في سورة يس بعد عيسى؟! ألا يوجد تعارض؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالعمدة في ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى {القصص:43}.

قال ابن كثير في تفسيره: يعني أنه بعد إنزال التوراة، لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية}. اهـ.

يعني أن هذا الأخذ بالعذاب كان لفرعون ومن قبله، وأما من بعد فرعون، ونزول التوراة؛ فلم يقع عذاب الاستئصال.

ويؤكد ذلك ما ورد في السنة عند هذه الآية، فعن أبي سعيد مرفوعا: ما أهلك الله قوما، ولا قرنا، ولا أمة، ولا أهل قرية منذ أنزل التوراة على وجه الأرض بعذاب من السماء، غير أهل القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى .. }. رواه البزار والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار موقوفا ومرفوعا، ورجالهما رجال الصحيح. اهـ

وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: كلاهما صحيح، ولا مخالفة بينهما، فمن الواضح أن الموقوف على الصحابي في حكم المرفوع فيما يتعلق بالتفسير، حتى ولو لم يرد مرفوعا، فكيف وقد صح مرفوعا أيضا. اهـ.

وراجع في ذلك الفتوى: 426904.

وأما قصة أصحاب القرية في سورة يس، فإنها تشكل على هذا إن ثبت بالفعل أن ذلك كان زمن عيسى عليه السلام، أو بعد نزول التوارة بصفة عامة. ولكن ليس في القرآن نص على زمنها، كما ليس فيه ذكر اسم هذه القرية، والمعروف عند المفسرين أنها أنطاكية، حتى قال الماوردي في النكت والعيون، والقرطبي في الجامع: هذه القرية هي أنطاكية من قول جميع المفسرين. اهـ.

ومع ذلك فقد ضعفه ابن كثير، حيث قال في تفسيره: كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه ..... الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- وغير واحد من السلف أن الله -تبارك وتعالى- بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله -تبارك وتعالى-: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى [القصص: 43] فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا ... اهـ.

ونقل ذلك ابن عادل في اللباب، وقال: هذا القول ضعيف جدا ... أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا؛ لقول الله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} [يس: 29] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل أنطاكية قديما، فكذبوهم، فأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله؛ فيجوز. اهـ.

والخلاصة: أن تحديد زمن قصة أصحاب القرية لم يقم عليه دليل مقبول، فضلا عن حجة قاطعة، بخلاف قصة أصحاب السبت الذين مسخوا، فإنها قطعا بعد نزول التوراة، وشريعة موسى -عليه السلام-، وأصحاب السبت وحدهم هم من استثنوا في حديث أبي سعيد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني