الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

كل التكاليف الشرعية أشعر بأني أستسيغها, وإن كان فيها مشقة ومكاره, خصوصا بعد أن قرأت حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره.
فالتكاليف الشرعية -وإن كانت مكاره "تكرهها النفوس" من ناحية طبيعتها- إلا أنها سبب لدخول الجنة. فإن فعل المسلم تكليفا واحدا، فقد فعل سببا لدخول الجنة , وإن فعل آخر صار قد فعل سببين لدخول الجنة , وإن فعل ثالثا أصبح قد فعل ثلاثة أسباب لدخول الجنة, وهكذا رابعا، وخامسا، وسادسا, إلى أن يكون قد استكثر من الأسباب لدخول الجنة.
ولكن أشعر برفض لفعل التكليف الشرعي الذي هو "الصبر على أقدار الله المؤلمة", يعني من طبيعة الإنسان أن يكره، ويدفع، ولا يوافق على أن يضر أو يؤذى, فكيف يصبر صبرا جميلا على الأضرار القدرية, أيا كان نوعها؟
هل تذكر لي شيئا مما قاله أهل العلم، يعين على ذلك, وتذكر لي أسبابا تثبتني على الصبر؟
وبصراحة مرت بي من قبل أضرار قدرية, فلم أصبر، بل جزعت بالقلب واللسان, وقلت ألفاظا سيئة جدا.
وما أريده أيضا أن تذكر لي كيفية التوبة من التسخط القلبي بالتفصيل؛ لأنها عمل قلبي بخلاف العمل البدني المعروف كيفية التوبة منه.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالصبر لا ينافي الحزن، ولا ينافي تمني زوال المكروه، أو عدم حصوله أصلا، ومن ثَمَّ، فالتكليف به تكليف بما يطاق، فالواجب فقط هو حبس اللسان عن الشكوى، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن اللطم، وشق الجيب، ونحو ذلك.

ومن نزل به مكروه، فجزع، فتوبته كالتوبة من أي ذنب ليس لها شروط زائدة، فعليه أن يقلع عن ذلك، ويعزم على عدم المعاودة، ويندم على ما فرط منه، فإذا فعل هذا صحت توبته.

وأما الذي يعين على الصبر؛ فأمور كثيرة.

منها: استحضار عظيم ثواب الصابرين، وما أعد الله لهم من النعيم المقيم، كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.

ومنها: استحضار المصيبة العظمى والبلية الكبرى التي يهون في مقابلها ما عداها، وهي المصيبة بفقد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومنها: مطالعة سير الصابرين، والنظر في أخبارهم، كسيرة نبي الله أيوب، ونبي الله يعقوب، وسير الصالحين الذين نزل بهم من البلاء ما نزل، فصبروا، وتجلدوا، وينظر كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين للعلامة المحقق ابن القيم -رحمه الله-.

ومنها: معرفة أن الحزن لا يرد غائبا، ولا يعيد فائتا، ولا ينشر ميتا، وأن الأمر كما قال بعض السلف: من رضي فله الرضا، وقدر الله ماض، ومن سخط فله السخط، وقدر الله ماض.

ومنها: معرفة أن الراحة لا تطلب في الدنيا، وأنها قطعة من العذاب واللأواء، فلا تطلب فيها الراحة والهناء، وإنما الراحة الحقيقية عند دخول المؤمن الجنة، فلا أحد في هذه الدنيا إلا وهو مصاب ومبتلى، ولا تستقيم الدنيا لأحد على طريقة، كما قال التهامي في مرثيته الشهيرة:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدارِ

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نارِ

ومنها: معرفة أن الله حكيم، وأنه لا يقدر شيئا إلا وله فيه الحكمة والمصلحة، ولكن عقولنا القاصرة تعجز عن إدراك أسرار حكم الله تعالى في خلقه، فما علينا إلا الصبر والتسليم.

فإذا استحضرت هذه المعاني وغيرها؛ هان عليك الصبر بإذن الله، وسهل عليك تجشم مشقته، وتحمل مرارته.

رزقنا الله وإياك الصبر الجميل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني