الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مدارة الأم للتخلص من سخطها

السؤال

عمري 39 سنة، عشت مع والدي كإخوتي الثلاثة، فقراء شبه معدومين، وفي حياة فاقدة للقيم الإسلامية، أَيْ: تربية عشوائية، كبرنا كلنا فاشلين في الحياة، فلم ينجح منا أحد لا في دنيا، ولا في دين. أبي وأمي منذ فتحت عيني على الدنيا وهما يتصارعان، ودائما بينهما مشاكل إلى يومنا هذا أكثر من أربعين عاما.
لي أخت أكبر مني، واثنان ولد وبنت أصغر مني. البنات انحرفن، وخرجن للفساد من أجل العيش، والولد جلس مع الوالدين في بيت إيجار؛ لأنه عاطل، والوالد لم يوفر بيتًا مِلكًا له في سنوات عمره التي مرت.
أما أنا فالوحيد الذي هُديت بفضل الله، وتغير فكري البسيط إلى الفهم الصحيح، تعلمت حرفة، وتزوجت بعد عناء، وواجهت مشاكل، وطلقت من الأولى، ثم الثانية، لكن لي منها بنت أوجب عليَّ القانون مصروفا شهريا بالتراضي بيننا، ثم تزوجت الثالثة، واخترت أن أسكن بعيدا عن أمي؛ لأنها كانت بتصرفاتها تشارك في هدم علاقتي مع الزوجة.
منذ سنوات وأنا أعيش في جحيم نفسي، بسبب تصرفات أمي العنيفة جدا معي. فأبي عاش سنوات لا هَمَّ له إلا المقهى، والمسلسلات، والتلفاز، والنوم، ويكتفي بوظيفته البسيطة التي لا تكفي كل الحاجيات. وأمي طوال عمرها تشتكي، ودائما تقول لي: أعطني، وأعطيها ما أقدر عليه.
الآن أنا تزوجت، وأجَّرت بيتًا، وبه فراش بسيط، وأزاول حرفة، ورغم التعب صابر؛ لأني أردت أن أعف نفسي، فصبرت على عناء العمل، وتبعات الإيجار والمصروف؛ لأجل العفة عن الحرام. وأبي لا يهتم بأمي بسبب عقليته المستهترة، التي أدت لفشلنا، وفساد أخواتي، وأمي تضغط عليَّ يوما بعد يوم لأعطيها، وكلما أعطيتها تطلب المزيد، وتقول: لا يكفي.
وأنا أفكر في توفير بعض المال؛ لأخرج من دوامة الإيجار، ليخف التعب، وأمي تكره بالكلية زواجي، ودائما تصرخ بالهاتف على أني أطعم امرأتي، وأتركها، وأصبحت أراها تحمل في قلبها حقدا وغلا عظيما، فهي تكره زواجي نهائيا.
ماذا أفعل؟ وكيف أتصرف مع أمي؟ فدخلي بسيط، وعليَّ إيجار، ومصروف، وعليَّ نفقة لبنت مع المرأة الثانية، وأكابد للخروج من ضيق الإيجار.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن كان تعامل أمك معك، ومع زوجتك على هذه الحال؛ فلا شك في أن هذا نوع من البلاء، وكثيرا ما يكون دافع الأم إلى مثل هذا التعامل السيء؛ نوعا من الغيرة على زوجة ابنها، فيخيل إليها أنها قد نافستها في ابنها، أو أنها استأثرت به وبماله.

ومن أهم ما نوصيك به الصبر عليها، وأن تستشعر دوما أنها أمك، وأن حقها عليك عظيم، حيث أوصى بها رب العالمين وصية خاصة بعد الوصية بالوالدين معا، فقال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {لقمان:14}، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله؛ من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك.

قال ابن حجر في فتح الباري: قَالَ ابن بَطَّالٍ: مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ مَا لِلْأَبِ مِنَ الْبِرِّ. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْلِ، ثُمَّ الْوَضْعِ، ثُمَّ الرَّضَاعِ. فَهَذِهِ تَنْفَرِدُ بِهَا الْأُمُّ، وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَاميْنِ. فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْوِصَايَةِ، وَخَصَّ الْأُمَّ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ عَلَى الْوَلَدِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنَ الْبِرِّ، وَتُقَدَّمَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْأَبِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ. اهـ.

ومن أفضل ما يمكن أن تبرها به، وتبر به أباك أيضا في مثل هذا المقام؛ أن تكثر من دعاء الله -عز وجل- لهما بالصلح والصلاح، وأن يسلك بهما سبيل الرشد والصواب، وربنا على كل شيء قدير، وقلوب العباد بيده يقلبها كيف يشاء، فلا تيأس أبدا، وهو القائل سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {غافر:60}.

ومهما أمكنك أن تعطي أمك من مالك؛ فافعل، لتكسب رضاها، وإذا كنت في حال ضيق يد، أو طلبت منك المال لغير حاجة، أو طلبت منك من المال ما يضر بك، فاعمل على مداراتها بحيث تتقي غضبها.

جاء في الفروق للقرافي: قِيلَ لِمَالِكٍ ... يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: لِي وَالِدَةٌ وَأُخْتٌ وَزَوْجَةٌ، فَكُلَّمَا رَأَتْ لِي شَيْئًا قَالَتْ: أَعْطِ هَذَا لِأُخْتِك، فَإِنْ مَنَعْتُهَا ذَلِكَ سَبَّتْنِي، وَدَعَتْ عَلَيَّ؟ قَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا أَرَى أَنْ تُغَايِظَهَا، وَتَخْلُصَ مِنْهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ. أَيْ وَتَخْلُصَ مِنْ سَخَطِهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني