الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ترك الأخت نصح أختها لتفادي غضب الأمّ

السؤال

أريد أن أسأل عن أمر يتعلق بوالدتي وعائلتي. أخشى أن أكون أعتقد أني أحسن التصرف وأبر بأمي. ويكون للدين رأي آخر. وهذه المسألة أصبحت تشكل همًّا لي، وضيقا شديدا.
لديّ أخت دوما ما تترك أعمالها المنزلية لأمي، وهي ليست صغيرة بالطبع، تبلغ 38 عاما، وأمي تبلغ من العمر 73 عاما، أي إنها كبيرة وبحاجة للراحة، وهي أولى بصحتها لنفسها، وليس للأعمال المنزلية المتروكة لها بسبب كسل أختي، وقلة مسؤوليتها.
تحدثنا كثيرا مع أختي في هذا الموضوع، ولا فائدة أبدا، لا تتغير، وحدثت مشاكل كبيرة بشأن هذا الأمر أيضا.
فهي تترك لها تنظيف الأواني البائتة، وأحزن على والدتي وهي تدلك وتنظف. وتترك لها الغسيل، وتنظيف غرفتها، ولا تساعد أبدا في الأعمال المنزلية، حتى فراشها كثيرا ما تتركه قبل نزولها إلى العمل لوالدتي. كنت دوما لا أسكت، فأنا شديدة التعلق بأمي، وكنت أتشاجر معها بسبب هذا الأمر، وبرًّا بوالدتي ورأفة بها. فأي إنسان عنده ضمير لن يقبل أن تكون والدته بهذا الموقع. ولكن هذا الأمر يزعج والدتي، ويجعلها تغضب، وتسكتنا، وتجد دوما مبررا لأختي (خوفا من حدوث المشاكل بيننا)، وتغضب عليّ أنا! فهي تقول دوما: (لا تنقصنا مشاكل).
وأختي لها عادة، عندما نتحدث معها في أي موضوع، تصرخ بأعلى صوتها لتسمع أمي، ثم تبدأ بالبكاء والصراخ عندما تعلم أنها مخطئة، حتى تقلب الحق على الطرف الآخر، وتدافع عنها أمي، وبدل أن تكون مخطئة نصبح نحن المخطئين! ومنذ أن كنا صغارا وهي تأكل حقنا بهذه الطريقة.
لسنوات طويلة لم أكن أسكت لها أبدا، حتى لو غضبت أمي بسبب شجارنا، فأنا يهمني أمي وصحتها، وليس تقصير أختي وعدم مسؤوليتها، ولكن قرأت مرة عن البر بالوالدين، بأنه لو كان الأمر يزعج الوالدة، فليس من البر الخوض فيه، وأنه ليس من البر مجادلة أمي، ومن البر أن أعمل ما يسعدها.
ولكني أتدخل لأني أشعر أنها في وضع المغلوبة، وليس من البر أن تقوم بهذه الأعمال.
فأصبحت في حيرة شديدة. أرجوكم لا تنصحوني بالتحدث معها بلين ونصيحتها، لأننا جربنا معها بالطبع كل الوسائل بلا أي فائدة ترجى نهائيا. وحتى عندما كنت أتحدث معها وأقول لها: (عيب أمي تغسل الأواني والوسخ البائت عنك) تقول لي: عادي! دعيها تغسل! أي أنها أيضا لا تشعر بتأنيب الضمير أبدا.
وتحدثنا مع أمي بألا تنظف وراءها، ولكن أمي تحب النظافة، ولا يرضيها هذا الأمر.
وجميع أخواتي يتجنبن الحديث معها في هذا الموضوع، بسبب ما تفعله بعد الحديث معها كما أخبرتكم.
وأنا في آخر فترة، خوفا من أن أكون أزعج أمي -وأنا نيتي برها- بدأت أتجاهل الموضوع. ولكن كانت النتيجة أن الأمور زادت عن حدها كثيرا، وأصبح دور أمي بالتنظيف تقريبا بدل دورها!
حتى إني كنت أنظف كثيرا عنها، حتى لا تستلم أمي دورها، ولكن أرى أيضا أنا لا نعالج الخطأ، وأغطي الخطأ بخطأ آخر، وهي بدأت دون حياء تترك كل العمل لأمي، علما أنها الوحيدة بيننا تقريبا التي لا تساعد في الأعمال المنزلية سوى بعد حدوث المشاكل.
جميعنا نعمل خارج المنزل، وننظف في المنزل، ولكن هي دوما تجد لها مبررا وتتحجج بالعمل (علما أنها تترك تلك الأعمال لأمي أثناء تواجدها بالمنزل، وليس أثناء غيابها بالعمل)
ثم إننا نحن من نصرف على المنزل، لأن أبي متوفى، وهي دائما تتعمد أن تذكّر أمي بمصروف المنزل كلما قالت لها أمي أن تنظف ما عليها، فتصمت أمي كالمغلوبة على أمرها، وهذا ما ينهش قلبي ويؤرقني.
ماذا أفعل؟ هل من البر أن أرى أمي تنظف دورها، وأصمت من أجل أمي وبرًّا بها؟
أنا أرى أنه ليس من البر أن تنظف أمي أصلا! ولكنها تغضب عليّ عندما أتدخل أو آخذ منها العمل!
جربنا الحديث معها مئات المرات باللين والشدة بلا أدنى فائدة أو تقدم.
أنا أحزن على أمي، وأحسها مغلوبة على أمرها، وهي طيبة جدا، وأكبر مخاوفها أن نتشاجر أو نفترق، وأختي تستغل هذا الأمر أسوأ استغلال.
دعوت لأختي بالهداية مئات المرات، وتوقفت عن التدخل من أجل أمي كثيرا. حتى إني أصبحت أدعو أن يأخذ الله حق أمي، وينتقم من أختي، بسبب كثرة تضايقي على أمي.
هل أسكت؟ أم أعاود التدخل؟ هل سكوتي هو سكوت عن منكر؟ علما أني عندما أتحدث فهذا لا يعجب أمي كما أخبرتكم. الأمر أصبح يشكل عبئا كبيرا عليّ.
لذا سأتقيد بأمر الدين في هذا الموضوع حتى لو كنت متضايقة من الداخل. فأنا يهمني أن أبر والدتي بشكل صحيح، وبما يرضي الله.
وجزيتم عنا خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن حق الأم عظيم، وبرها مطلوب، وقد أوصى بها رب العالمين وصية خاصة حيث قال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ {لقمان:14}.

قال ابن حجر في فتح الباري: وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين. فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة. اهـ.

وجعلت السنة لها ثلاثة أرباع البر، ففي الحديث المتفق عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ:" أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ".

قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر. اهـ.

ووجود الأم في الحياة فرصة للأولاد للعمل على برها واكتساب رضاها، فإن ذلك سبيل لرضا الله عز وجل، روى ابن ماجة عن معاوية بن جاهمة السلمي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك، أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ويحك الزم رجلها، فثم الجنة.

ولذا؛ ينبغي أن يكون هذا الأمر مضمارا للسباق في خدمة الأم ومساعدتها.

وسبق أن بينا أن مساعدة البنت لأمها في الخدمة واجبة إذا كانت الأم محتاجة لذلك، فراجعي الفتوى: 295024.

فإن كانت أمكم في حاجة لمن يساعدها في خدمة البيت، فذلك واجب على أولادها كل حسب استطاعته.

فإن كانت أختك ترفض مساعدة أمك -مع قدرتها على ذلك- فإنها مسيئة ومفرطة. وإن لم تعنها في خدمة البيت عموما فلا أقل من أن تقوم بشأنها في نفسها وما يختص بها، ولا تكون سببًا في زيادة عناء أمها.

وقد أحسنت بنصحها وتذكيرها بوجوب البر وخطر التقصير في حق الأم، وينبغي أن يستمر النصح بالرفق واللين ما رُجِيَ أن ينفع النصح.

هذا مع الاستمرار في الدعاء لها بأن يرزقها الله رشدها، ويردها للصواب. ويمكنك أن تستعيني في نصحها بآخرين ممن ترجين أن يكون قولهم مقبولا عندها.

وإن غلب على الظن عدم استجابتها، أو كان النصح يزيدها عنادا فيسعك السكوت، ولا حرج عليك فيه، فقد قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى {الأعلى:9}.

قال السعدي في تفسيره: فذكِّر بشرع الله، وآياته، إن نفعت الذكرى، أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة -سواء حصل من الذكرى جميع المقصود، أو بعضه-، ومفهوم الآية: أنه إن لم تنفع الذكرى -بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير-، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًّا عنها. اهـ.

وإذا كانت أمك تتأذى من قيامك بنصح أختك، فاتركي النصح؛ لأنه يتحقق به عكس مقصودك وهو الإساءة لأمك بدلا من الإحسان إليها.

ويمكن الاستمرار في تسليط الأخيار عليها إن لم تترتب عليه تلك المفسدة، نعني تأذي أمك من هذا النصح.

نسأل الله تعالى أن يهدي أختك، ويصلح حالها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني