الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تعارض بين الآيات التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين وتفضيل الأم على الأب في البر

السؤال

هل يتعارض حديث: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ والذي تم تفضيل الأم فيه على الأب، مع الآيات القرآنية التي ذكرت جميعها الإحسان للوالدين معا، ولم تفرق بين الأم والأب؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتفضيل الأمّ على الأب في البرّ؛ ليس محل إجماع بين أهل العلم، ولكن الجمهور على تفضيل الأمّ للحديث المشار إليه في السؤال، وهو الراجح عندنا.

وليس في هذا القول معارضة لآيات القرآن الكريم التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين دون تفريق، بل إنّ بعض الآيات أشارت إلى هذا التفضيل، في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ {لقمان: 14}.

قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر.

قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع. فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين. فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة.

قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة.

وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء. ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول. انتهى.

كما أنّ الآيات لم تتعرض لحال التعارض بين برّ الأمّ وبرّ الأب على وجه لا يمكن الجمع بينهما.

قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير: ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معا في ذلك؛ لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه، وذلك قابل للتسوية. ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر. ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع.

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك». وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم؛ لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه.

وللعلماء أقوال:

أحدها: ترجيح الأم على الأب. وإلى هذا ذهب الليث بن سعد، والمحاسبي، وأبو حنيفة. وهو ظاهر قول مالك، فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلا سأل مالكا فقال: إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ فقال مالك: أطع أباك، ولا تعص أمك. وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكا أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم.

الثاني: قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر. وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين.

وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب «الرعاية» أنه قال: لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب الربع. وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال: ثم أبوك بعد المرة الثانية، أو بعد المرة الثالثة.

والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط، وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال. انتهى.

وللفائدة، راجع الفتوى: 430033

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني