الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم شراء البضاعة من بائع مخمور

السؤال

ما حكم شراء البضاعة من بائع مخمور؟ مع العلم أني علمت بأنه مخمور، وشممت رائحة المنكر منه والعياذ بالله، ولكن بضاعته كانت جيدة ورخيصة بالنسبة لي.
أفيدونا، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين كل خير.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا يخلو هذا الرجل الذي باع لك من أن يكون على واحدة من حالتين:

الأولى: أن يكون قد شرب الخمر لكنها لم تؤثر على عقله تأثيرًا يجعله ليس أهلًا للتصرف، وفي هذه الحالة يكون البيع صحيحًا نافذًا إذا خلا من الغش والتدليس أو الغبن الفاحش وما شابهه من الشروط التي يجب توافرها في عقد البيع عمومًا، ولا يضر العقد كون البائع هنا فاسقًا عاصيًا، لأن عقد البيع مع الفاسق جائز إذا خلا من الموانع الأخرى المبطلة للبيع، وقد جرى العمل على ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا دون أن ينكره أحد فيما نعلم.

الثانية: أن يكون قد شرب الخمر مع تأثيرها على عقله تأثيرا يسلبه كمال أهلية التصرف، وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء في حكم بيع السكران، فذهب الأحناف والشافعية إلى أن بيعه صحيح نافذ زجرًا له عن إدخال السكر على نفسه.

قال في المجموع شرح المهذب وهو شافعي: وأما السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه وسائر عقوده التي تضره والتي تنفعه. اهـ.

وقال ابن عابدين في رد المحتار وهو حنفي: إن بيع السكران إنما جاز زجرا عليه. اهـ.

وذهب المالكية إلى أن بيعه موقوف بمعنى أنه يجوز له الرجوع عنه إذا أفاق كما يجوز له إمضاؤه.

قال المواق في التاج والإكليل وهو مالكي: وكذا بيع السكران إذا كان لا يعقل بيعه موقوف حسبما تقرر. اهـ.

ونقل الحطاب عن ابن رشد في مواهب الجليل قوله: لا يقال في بيع السكران أن مذهب مالك أنه غير منعقد وإنما يقال إنه غير لازم. اهـ.

والراجح في هذه المسألة -والله أعلم-، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمه الله-: أن بيع السكران غير صحيح، لأنه فقد عقله الذي هو مناط التكليف، وشرط صحة التصرفات، ولا فرق في ذلك بين السكران والمجنون والمغمى عليه لاتحاد العلة وهي زوال العقل، وقد وضح ابن قدامة ذلك في المغني حيث قال مبينا دليل الرواية القائلة بعدم صحة طلاق السكران: لأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم، ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره، ولأن العقل شرط للتكليف إذ هو عبارة عن الخطاب بأمر أو نهي ولا يتوجه ذلك إلى من لا يفهمه، ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها بدليل أن من كسر ساقيه جاز له أن يصلي قاعدا، ولو ضربت المرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف، وحديث أبي هريرة لا يثبت، وأما قتله وسرقته فهو كمسألتنا.

ثم قال: فصل والحكم في عتقه ونذره وبيعه وشرائه وردته وإقراره وقتله وقذفه وسرقته كالحكم في طلاقه لأن المعنى في الجميع واحد، وقد روي عن أحمد في بيعه وشرائه الروايات الثلاث، وسأله ابن منصور إذا طلق السكران أو سرق أو زنى أو افترى أو اشترى أو باع فقال: أجبن عنه لا يصح من أمر السكران شيء. وقال أبو عبد الله بن حامد: حكم السكران حكم الصاحي فيما له وفيما عليه، فأما فيما له وعليه كالبيع والنكاح والمعاوضات فهو كالمجنون لا يصح له شيء وقد أومأ إليه أحمد، والأولى أن ماله أيضا لا يصح منه لأن تصحيح تصرفاته فيما عليه مؤاخذة له، وليس من المؤاخذة تصحيح تصرفه له. انتهى.

وبناء على ما رجحناه هنا، فإذا كان الرجل الذي اشتريت منه زائل العقل بسكر أوبغيره، فالعقد غير صحيح، والواجب عليك هو الرجوع إليه بالسلعة لتشتريها منه حال إفاقته، لاسيما وقد ذكرت أنه باعها لك بسعر رخيص، وذلك مما يؤكد احتمال تفريطه في جزء من الثمن لما هو فيه من ذهاب العقل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني