الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تشقير الحاجبين هل هو من ضروب الحيلة

السؤال

ورد في الحديث لعن النامصة والمتنمصة.. لكني سمعت أن تشقير الحاجب أو قصه بدون ضرورة للمظهر فقط يعد من الحيلة.. ما فهمته أن تشقير الحاجب أو قصه بدون نزع يعطي الشكل نفسه الذي ورد في الحديث بالتنمص، حيث إنني لا أفرق إذا كانت الفتاة قد قامت بنزع شعر الحاجب أو قامت بتلوينه بالتشقير أو قامت بقصه بدون نزع، وهذا ما يسمى بالحيلة.. (أضرب لكم مثالاً: كمن يشرب ماء في زجاجة خمر بقصد أن يراه الناس.. فمن يراه يظن أنه يشرب خمراً!)، ما صحة هذا القول، وما حكمها، وما الذي ينطبق عليها، وما القصد بالحيلة؟ جزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن تشقير الحاجبين جائز لأنه لم يرد شيء يحرمه فيبقى على الأصل، إذ ليس هو من النمص المحرم، وليس فيه تغيير لخلق الله تعالى، لكن يحرم فعله للتدليس على الخاطب إذا أراد الزواج بالمرأة، لأن الخاطب لا بد أن يرى المرأة على هيئتها الطبيعية، وفي العادة نجد أن الخاطب لا يدقق عند رؤيته المخطوبة لأول مرة، وبالتالي لا يظهر له التشقير الذي يراه القريب من المرأة في العادة، كما يحرم إذا كان فيه تشبه بالكفار، لأن الله تعالى نهانا عن التشبه بهم، كما لا يجوز فعله إذا قصدت به المرأة التزين للرجال الأجانب.

والحكم المختار عندنا هو جواز الأخذ بالتشقير من باب الزينة، وتركه من باب البعد عن الشبهات، فالأخذ به من باب الزينة جائز بالشروط التي ذكرت، وتركه زيادة في الورع، قال الخرشي في شرحه لمختصر خليل في تعريف الأورع: إن الأورع هو الذي يترك بعض المباح وأولى بتركه المشتبه، وأما الورع فهو الذي يترك المشتبه خوف الوقوع في الحرام.... انتهى.

أما عن قص شعر الحاجب غير المشوه للخلقة تشويها واضحاً فالمفتى به في الشبكة أنه محرم على المرأة، وهو على الرجل أشد تحريماً، إذ قد أذن للنساء في أنواع من الزينة لم يؤذن فيها للرجال، ويستوي الحلق والقص مع النتف في الحكم لأنه يؤدي مؤداه.

وليس في إباحتنا للتشقير بالقيود التي ذكرناها أي تحايل على أمر الله، لأن الحيلة المحرمة هي التي يتوصل بها إلى تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، وليس في تجويز التشقير تحليل لما حرم الله من النمص، لأنها ليست نمصاً ولا في معنى النمص ولا مانع في هذا المقام من أن نبين معنى الحيلة وما يحرم منها وما يشرع.

قال ابن القيم في تعريفها وبيان إطلاقاتها: والحيلة: مشتقة من التحول، وهي النوع والحالة كالجلسة والقعدة والركبة فإنه بالكسر للحالة، وبالفتح للمرة.... فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً، وأخص من هذا استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً أو عقلاً أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس، فإنهم يقولون: فلان من أرباب الحيل، ولا تعاملوه فإنه متحيل، وفلان يعلم الناس الحيل، وهذا من استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرهما. انتهى.

ومن كلام ابن القيم يتبين لنا أن الحيل نوعان:

1- حيل يتوصل بها إلى مخالفة أمر الله ونهيه بإسقاط الواجبات أو بتحليل المحرمات، وهذا النوع من الحيل محرم مذموم.

2- حيل يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله تعالى والعمل بشرعه، ويختلف حكم هذا النوع بحسب ما يؤدي إليه.

قال ابن القيم في أعلام الموقعين: فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات. انتهى.

وقال بعد ذكر أدلة تحريم الحيل المحرمة التي غلب في عرف الفقهاء استخدامها: فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله، ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله، وأسقط فرائضه بالحيل، كقوله: لعن الله المحلل والمحلل له لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها. انتهى.

وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: إن هذه الحيل أول ما ظهر الإفتاء بها في أواخر عصر التابعين أنكر ذلك علماء ذلك الزمان، مثل أيوب السختياني، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، ومثل شريك بن عبد الله، والقاسم بن معن، وحفص بن غياث قضاة الكوفة.

وتكلم علماء ذلك العصر مثل أيوب السختياني، وابن عون، والقاسم بن مخيمرة، والسفيانين، والحمادين، ومالك، والأوزاعي، ومن شاء الله من العلماء في الدين، وتوسعوا فيها من أهل الكوفة وغيرهم بكلام غليظ لا يقال مثله إلا عند ظهور بدعة لا تعرف دون من أفتى بما كان من الصحابة تفتي به أو بحق منه ومعلوم أن هؤلاء وأمثالهم هم سرج الإسلام، ومصابيح الهدى، وأعلام الدين، وهم كانوا أعلم أهل وقتهم وأعلم ممن بعدهم بالسنة الماضية وأفقه في الدين، وأروع في المنطق، وقد كانوا يختلفون في مسائل الفقه، ويقولون باجتهاد الرأي ولا ينكرون على من سلك هذه السبيل، فلما اشتد نكيرهم على أهل الرأي الذين استحلوا به الحيل علم أنهم علموا أن هذه بدعة محدثة. انتهى.

وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى أيضاً مبيناً ما يباح من الحيل: وأما تعريف الطريق الذي ينال به الحلال والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له، فهذا هو الذي كانوا يفتون به وهو من الدعاء إلى الخير، والدلالة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا. وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: أن أوراقنا تزيف علينا أفتريد عليها ونأخذ ما هو أجود منها، قال: لا، ولكن أئت النقيع فاشتري بها سلعة ثم بعها بما شئت. انتهى.

وقال: وبالجملة فقد نصب الشارع إلى الأحكام أسباباً يقصد محصول تلك الأحكام، فمن دل عليها وأمر بها من لم يتفطن لها ممن يقصد الحلال ليقصد بها المقصود الذي جعلت من أجله، فهذا معلم خير، وكذلك ما شاكل هذا، وهذا هو الذي تقدم ذكره، عن الإمام أحمد في أول الكتاب لما ذكر أن حيلة المسلمين أن يتبعوا ما شرع لهم، فيسلكوا في حصول الشيء الطريق الذي يشرع لتحصيله دون ما لم يقصد الشارع به ذلك الشيء فثبت بما ذكرناه أنه لم يحك أحد من القائلين بالحيل والمنكرين لها عن أحد من الصحابة الإفتاء بشيء من هذه الحيل التي يقصد بها الاستحلال بالطرق المدلسة التي لا يقصد بها المقصود الشرعي، وهذا هو المقصود هنا. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني