الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يقتل ساب الرسول ومن الذي يتولى ذلك

السؤال

ما هو جزاء من يستهزئ بالله ورسوله، والرجاء توضيح هذا الحديث (عندما وجدت امرأة مقتولة فسأل الرسول عن قاتلها فقام رجل أعمى وقال أنا. قال لأنها كانت تسبك فنهيتها فلم تفعل، فرد الرسول ألا وقد دمها قد هدر) فلم يعاقبه الرسول. وأيضا توضيح معنى هدر، وهل يقتل من سب الرسول أي أحد إذا رفض ولي الأمر ذلك على سبيل ما حدث في السودان . وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد ثبت في الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانت أم ولد لرجل كان له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فينهاها ولا تنتهي ويزجرها ولا تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم فما صبر أن قام إلى مغول فوضعها في بطنها ثم اتكأ عليها حتى أنفذها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن دمها هدر.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقال الذهبي في التلخيص: صحيح.

ومعنى دمها هدر أنه باطل قال ابن الأثير في النهاية: يُقال ذَهَب دَمُه هدرا إذا لم يدرك بثأره. ومنه الحديث من اطلع في دَارِ قَوْمٍ بَغَير إذن فَقَد هَدَرَت عَيْنُه أي إنْ فَقَأُوها ذَهَبت بَاطِلة لا قَصَاص فِيها ولا دِيَة يقال هَدَرَ دَمُه يَهْدِر هَدْراً أي بَطَلَ وأهْدَره السلطان. اهـ

والحديث يدل على مشروعية قتل الساب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب كثير من أهل العلم، وحكموا عليه بالردة ولكنه لا يقتله إلا السلطان أو من يقوم مقامه، لأن افتيات غير السلطان قد يسبب من انفلات الأمور والفوضى ما يصعب التحكم فيه، ويجر فسادا أعظم فتعين تحري عامة الناس في الموضوع ارتكابا لأخف الضررين، ودفعا لعظمى المفسدتين بارتكاب أدناهما، لأن ارتكاب أخف الضررين وأهون المفسدتين متعين تفاديا للضرر الأكبر المحتمل حصوله، قال الشوكاني في النيل: وفي حديث ابن عباس وحديث الشعبي دليل على أنه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله. ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء. فلو تاب لم يسقط عنه القتل حد قذفه، وحد القذف لا يسقط بالتوبة. وخالفه القفال فقال: كفر بالسب، فسقط القتل بالإسلام. وقال الصيدلاني: يزول القتل، ويجب حد القذف. قال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم. فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وسلم منهم إلا أن يسلم. وأما المسلم فيقتل بغير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهود ونحوه. وروي عن الأوزاعي ومالك في المسلم أنها ردة يستتاب منها. وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر، وإن كان مسلما فهي ردة. وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف؟ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون له: السام عليك، لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك، ولا أقروا به، فلم يقض فيهم بعلمه. وقيل: إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم. وقيل: إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم: وعليكم، أي الموت نازل علينا وعليكم. فلا معنى للدعاء به. أشار إلى ذلك القاضي عياض. وكذا من قال السأم بالهمز بمعنى السآمة هو دعاء بأن يملوا الدين، وليس بصريح في السب. وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده محل تأمل. واحتج الطحاوي لأصحابه بحديث أنس المذكور في الباب، وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكانت ردة. وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد، فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سبه منهم تعدى العهد، فينتقض، فيصير كافرا بلا عهد، فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا، لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين، ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل. فإن قيل: إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم، ولو سب ثم أسلم لم يقتل. قلنا: الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام. والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف، أو لكونهم لم يعلنوا به، أو لهما جميعا، وهو أولى، كما قال الحافظ.

وأما المستهزئ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر يستحق القتل لقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {التوبة:65-66}

ونعود فنؤكد أنه إنما يتولى مثل هذا النوع من الحدود والتعزيرات هو السلطان أو نائبه وليس عامة المسلمين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني