الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

كنت شخصا مسلما وضعف إيماني كثيراً حتى زال كليا، كيف يمكن بالمنطق أن تعيدوا لي إيماني، أسئلة كثيرة جعلتني لا أؤمن منها، لماذا خلق الله الأنبياء في فترة معينة والآن لا يمكنا رؤيتهم والتحقق من معجزاتهم، أم يجب علينا الاعتماد على تاريخ وكتب وموسوعات كثيرة... لماذا يذهب المسلمون فقط إلى الجنة بينما يوجد ملايين الأشخاص في العالم لم يعرفوا عن الإسلام ولم يولدوا لأب وأم مسلمين بينما ولدوا لأب وأم عاديين ولم يبحثوا في أمور الدين وهم طيبوا القلب ويفعلون الخير، ملايين الأشخاص ليس لديهم العقل الكامل لأن يقرأوا في كتب كثيرة ليعلموا أن الدين الصحيح هو الإسلام من بين كل هذه الديانات والأصعب من ذلك يجب أن يكون إسلاما سنيا!! أغلب المسلمين مولودون لأب وأم مسلمين أي أنعم الله عليهم بالإسلام فأين العدل في أن المولودين لأب وأم غير مسلمين يذهبون إلى النار، إذا كنا مخيرين ألا يجب أن يكون هنالك شيء واضح يدل على أن الإسلام هو الدين الصحيح وما غير ذلك فهو خاطئ، وعندما يرى الجميع هذا الشيء يمكن عندها من لم يصدق به أن نقول أنه يستحق الذهاب إلى النار فمثلا أن يرينا الله نفسه.. أما أن تكون الهداية من الله وهكذا عشوائية فإنه وكأنها تمييز وغير عدل، يقول بعض النصارى إذا سألت الله أن يبين نفسه لك سيبين، هل الله يبين نفسه لمن يشاء لكي يؤمن به فيدخله الجنة وأما الباقي فيدخلون النار، الناس اللطفاء في العالم وغير المسلمين وهم مولودون على عدم الإيمان بأي شيء وهم طيبون هل يستحقون كل هذا العذاب الموصوف في القرآن، وذنبهم الوحيد أنهم لم يقرؤوا كتب الإسلام السني ليؤمنوا به أو لم يهدهم الله بشخص ليهديهم إلى الإسلام، لماذا لا يوجد في هذه الأيام رسل لنصدق بها، فإن كذبناها ممكن القول أننا نستحق العذاب، إن كان الله رحيما لماذا يسمح بأن يخلق أطفالا مشوهين ومعوقين، ما ذنب هؤلاء لأن يعيشوا بمعاناة تقشعر لها الأبدان، لماذا يسمح الله بما يجري في كل الأرض من تعذيب لناس مدنيين وبطرق تقشعر لها الأبدان، أستعذركم على طريقة كتابتي وأنا كنت مسلما متدينا وأتفهم أن لغتي تزعجكم، ولكن والله أريد أجوبة "منطقية" على أسئلتي حتى أرجع إلى إسلامي فأنا مشتاق إليه ولكن، أفكاري ومنطقي يقول أنه لا يوجد هنالك عدل وخاصه في موضوع غير المسلمين الذاهبين إلى جهنم بغير حق في نظري، وأيضا الأطفال... وأنا شخص في عملي أتعرف وأعيش مع مئات من الأجانب و"الكفار" يوميا ولا أستطيع أن أقول إن هؤلاء المسالمين يجب أن يذهبوا إلى النار!!؟ شكرا وآسف على ألفاظي إن مست مشاعركم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنسأل الله تعالى أن يمن عليك بالعودة إلى الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، في سؤالك عدة نقاط:

الأولى: لماذا خلق الله الأنبياء في فترة معينة والآن لا يمكنا رؤيتهم والتحقق من معجزاتهم، أم يجب علينا الاعتماد على تاريخ وكتب وموسوعات كثيرة... وجوابه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر به من قبله من الأنبياء كعيسى عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى عنه: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ {الصف:6}، وأحمد من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، والبشارة به مدونة في الكتب السماوية السابقة بوصفه الذي تحقق منه من أدركه منهم فآمن به، ومن كفر فإنما كان ذلك حسداً وعناداً، والله يتولى الحكم على الجميع يوم القيامة.

وقد تواتر نقل معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته، منها ما مضى في زمنه صلى الله عليه وسلم ورآها من عاصرها وبقي لنا خبرها، كانفلاق القمر قطعتين، ونبع الماء من بين يديه، وتكليم الجمادات له ونحو ذلك، ومنها ما هو باق إلى أن يشاء الله شاهداً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الباقية على مر العصور، والحجة على الخلق أجمعين لما فيه من أنواع الإعجاز، فهو معجز بلفظه فقد أعجز العرب عن الإتيان بسورة مثله مع بلاغتهم وفصاحتهم مما يدل دلالة قاطعة على أنه من عند الله، وهذا النوع معجز في حق جميع البشر لأنه إن كان قد عجز العرب وهم أهل الفصاحة والبيان عن الإتيان بسورة مثل القرآن فإن غيرهم أعجز، فبعجز العرب قامت الحجة على من عداهم، والقرآن معجزة لما تضمنه من العلوم في جوانب شتى ما كان يعرفها العلماء في زمن نزول القرآن فضلاً عن رجل أمي كان يرعى الغنم بمكة، مما يدل دلالة قاطعة أنه منزل من خالق هذه المخلوقات، وهذه العلوم التي يخبر عنها القرآن في جوانب متعددة والتي لم يكتشفها العلم الحديث إلا في هذه الأزمان كانت سبباً في إسلام علماء كبار متخصصين في مجالات متعددة ومن أقطار متفرقة، فالقرآن يتحدث عن مراحل خلق الإنسان وتكوينه في بطن أمه، ويتحدث عن حقائق في علوم البحار وعلم الفلك إلى غير ذلك من العلوم، ونحن ننصحك بمطالعة ما كتبه العلماء في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وستجد شيئاً كثيراً من هذا في حلقات مسجلة للشيخ الفاضل عبد المجيد الزنداني حفظه الله، وإذا تبين هذا فإن هذا موجب للإيمان والتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما أخبر به وإن لم نره.

ولا يشترط في الإيمان بشيء معين رؤيته، فإن أشياء كثيرة يؤمن بها الإنسان ولا يراها، ومن ذلك رب العالمين؛ بل روح الإنسان وعقله يؤمن بهما الإنسان ولم يرهما، وإذا ثبت أنه نبي من عند الله حقا، وجاء القرآن الكريم بأنه خاتم النبيين، كما في قوله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ {الأحزاب:40}، وجب القبول والتسليم بأنه خاتم النبيين لأنه حكم من رب العالمين الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، وليس للمخلوق أن يعترض على الخالق، لأن الله تعالى يقول: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}، ويقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {القصص:68}، ويقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {الأحزاب:36}، وقد جعل الله الشريعة التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان، وتكفل بحفظ القرآن من التغيير والتبديل فلم تنله أيدي التغيير على مر العصور، فكيف يقول عاقل بعد ذلك لا بد من نبي في هذا الزمان؟! والقرآن بين أيدينا محفوظ كما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.

النقطة الثانية: قولك: لماذا يذهب المسلمون فقط إلى الجنة بينما يوجد ملايين الأشخاص في العالم لم يعرفوا عن الإسلام ولم يولدوا لأب وأم مسلمين.. وجوابه: أن الذي تبلغه دعوة النبي صلى الله وسلم ومعجزاته ويؤمن به يكون قد استجاب لله ربه وخالقه والمتصرف في شؤونه فيجازيه الجنة، وأما الذي بلغه ذلك وأصر على كفره فهو عاص لربه ومستكبر عن طاعته فيستحق النار، وليس هذا مقتصراً على من ولد من أبوين كافرين بل هناك من أولاد المسلمين من يعرف الإسلام ويرفضه فيلحق بركب هؤلاء الكافرين، وهناك من الكافرين من تبلغه دعوة النبي صلى الله فيتبعها فيكون من أهل الجنة، فليست القضية كون هذا من أبوين مسلمين وذاك ليس كذلك، وأما من لم تبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعذبه الله، كما قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {الإسراء:15}، بل هو من أهل الفترة الذي يختبرون يوم القيامة فمن استجاب كان من أهل الجنة، ومن استكبر كان من أهل النار.

النقطة الثالثة: قولك: ملايين الأشخاص ليس لديهم العقل الكامل لأن يقرؤوا في كتب كثيرة ليعلموا أن الدين الصحيح هو الإسلام من بين كل هذه الديانات... وجوابه: أن هذا تقصير منهم فالعقل والمنطق يقول: كيف يجد هؤلاء العقل الوقت للتكفير في بناء المساكن الفارهة وصنع المراكب المريحة وأنواع متع الدنيا وملذاتها، ولا يجدون العقل والوقت لمعرفة ما هو الدين الحق الذي يجب عليهم التعبد به لله خالقهم ورازقهم، فهذا ليس عذراً صحيحاً قطعاً.

النقطة الرابعة: قولك: والأصعب من ذلك يجب أن يكون إسلاماً سنياً.. وجوابه: أن المطلوب من الكافر أولاً أن يدخل في الإسلام، فإذا دخل فيه وعرفه فإنه يكون قد عصم نفسه من النار ثم بعد ذلك يوفقه الله تعالى في إسلامه إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويبعده عما أدخله بعض أعداء الإسلام من تحريفات وضلالات معروفة عند العالمين بالدين الإسلامي، ووجود هذا ليس عذراً في ترك الإسلام ولا دليل على بطلانه.

النقطة الخامسة: وهي طلبك دليلاً واضحاً على أن الإسلام هو الدين الحق، فقد سبق بيان ذلك وأنه المعجزات الظاهرة الباهرة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسؤال الذي نريد أن نطرحه عليك ومطلوب منك أن تحاور نفسك في جوابه بصدق هو: هل قبل اتخاذك لقرار ترك الإسلام لمجرد هذه التساولات التي طرأت لك كنت قد قرأت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفحصتها وعرفت حقيقة الشريعة التي جاء بها، وهل حاورت عالماً مشهوداً له بالعلم ومعرفة الشريعة عند المسلمين قبل ذلك؟

واعلم أن تتبع الوساوس والأوهام التي يلقيها الشيطان إلى الإنسان لا يجوز أن يسلم لها، لأن الله قال عن الشيطان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {فاطر:6}، ولو وضعت نفسك أمام تلك الحقيقة التي ذكرناها لك في مسألة إعجاز القرآن لوجدت أنك اتخذت قراراً بترك الإسلام قبل الرجوع إلى العقل والمنطق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ المكتوب لكنه أخبر عن أمور بدأ العلم الحديث يكتشف بعضها ويشهد بصحة ما أخبر به، وبعض من علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بما توصل إليه بعد سنين من البحث والتنقيب أسلم وقال: لا يمكن لمن كان في تلك الفترة أمياً وفي ذلك التخلف العلمي أن يخبر بهذه الحقائق من تلقاء؛ نفسه بل تلقاه من خالق هذا الكون والعالم بأسراره، فهل يبقى شك عند عاقل في أن ما في القرآن هو من عند الله وليس من عند محمد عليه الصلاة والسلام.

النقطة السادسة: طلبك آية ظاهرة تجعل الناس جميعاً يؤمنون كرؤية الله مثلاً؟ وجوابه: أن هذه الحياة مبنية على الامتحان والاختبار ولو حصل ما طلبت لانتفت هذه الحكمة وآمن الناس جميعاً مضطرين مثلما يحصل عند طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان.

النقطة السابعة: وهي من أصعب وأعسر ما كتبته على أنفسنا وهي قولك: إن كان الله رحيماً لماذا يسمح بأن يخلق أطفالاً مشوهين ومعوقين، ما ذنب هؤلاء لأن يعيشوا بمعاناه تقشعر لها الأبدان؟ لماذا يسمح الله بما يجري في كل الأرض من تعذيب لأناس مدنيين وبطرق تقشعر لها الأبدان؟ وجوابه أن نقول: إن هذا الكون ملك لله فهو الذي خلقه وأوجده من العدم، وللمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء لا يسأل عما يفعل سبحانه ولا يوصف تصرفه فيه بظلم أبداً؛ بل كل تصرفه سبحانه عدل لأنه مبني على الحكمة والامتحان والابتلاء في هذه الدار الفانية الزائلة التي لا مقارنة بين مقام الإنسان فيها ومقامه في الدار الآخرة، فخلق طفل مشوه -مثلاً- لحكم يعلمها الله، ومنها: رفع درجته في الدار الآخرة، فهذا التشوه ليس ظلماً له بل لمصلحة أكبر، ومن ذلك جعله عبرة لغيره من الأصحاء ليشعروا بعظيم منة الله عليهم فيحمدوه، فلم يكن في هذا التصرف من الله ظلم للمشوه إطلاقاً.

النقطة الأخيرة: قولك: هل الله يبين نفسه لمن يشاء.. وجوابه: أنه لن يرى أحد ربه بعينه في هذه الدنيا، وسيراه المؤمنون في الدار الآخرة، ومن قال بغير هذا فقد كذب، ولكن الله عز وجل وإن كان لا يُرى في الحياة الدنيا فإنه أقام الدلائل الواضحة على وجوده سبحانه وقدرته وعلمه ورحمته، فالمخلوقات كلها شاهدة بوجود الله جل شأنه، ومنها: أنت أيها الإنسان فتفكر في نفسك لتجد ما لا يحصى من الأدلة على وجود الخالق سبحانه.

وقد تكون هذه الأجوبة التي أوردناها قاصرة في المراد، ولكن فيها إشارات تحتاج منك أن تتأمل فيها ثم تذهب إلى أحد علماء الإسلام وتحاوره فيما طرأ عليك من شبهات وشكوك وستجد عنده الأجوبة الشافية لأن الحوار المباشر أنفع وأجدى، ونود أن تتواصل معنا في طرح أهم ما بقي عندك من الشبهات وتوصيفها بدقة وسنعينك بقدر ما نستطيع بإذن الله تعالى، فنحن كما يعلم الله نحب لك الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولا مصلحة لنا في ذلك بل المصلحة هي لك، فاحذر أن تخسر حياتك الحقيقية وسعادتك الأبدية، فأولِ هذا الموضوع اهتماماً كبيراً، وارجع إلى ما تحس أنك في شوق إليه وهو دين الله تعالى، وتوجه إلى ربك بصدق وإخلاص في أن يهديك للحق ويثبتك عليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني